لوحة تخيلية لما كانت عليه منارة الاسكندرية
في القرن الرابع قبل الميلاد أسس الاسكندر
المقدوني إمبراطورية مترامية الأطراف ضمت اغلب بقاع العالم القديم , و
لتخليد حروبه و انتصاراته شيد الفاتح الشاب قرابة العشرين مدينة , جميعها
حملت اسمه , لكن بمرور الزمن اندثرت اغلب هذه المدن , أو خمل ذكرها فتحولت
إلى بلدات صغيرة قلما تجذب الاهتمام إليها , و لم يشذ عن هذه القاعدة سوى
مدينة واحدة , أنها الإسكندرية المصرية , التي تحولت إلى إحدى أعظم مدن
العالم و أكثرها ازدهارا خلال العصر الهيليني.
بعد
موت الاسكندر تنازع على حكم إمبراطوريته الواسعة قادة و جنرالات جيشه , و
انتهى هذا لنزاع الدموي بتقسيم الإمبراطورية إلى أجزاء فكان أن أصبحت مصر
من حصة بطليموس الأول مؤسس سلالة البطالسة التي حكمت البلاد لعدة قرون
وعرفت الإسكندرية في عهدها ازدهارا كبيرا على جميع الأصعدة حتى غدت قبلة
للقوافل و السفن التي أخذت تتوافد إليها من أفاق الأرض و أرجائها طلبا
للتجارة و للعلم و المعرفة.
كان للمدينة ميناءان احدهما يطل على ضفاف النيل من اجل الملاحة الداخلية و الأخر على سواحل البحر الأبيض المتوسط كانت تقصده السفن القادمة من الممالك و البلاد الأخرى , و قد واجه النشاط الملاحي المتزايد في ميناء الإسكندرية مشكلة رئيسية , فالساحل المصري مسطح و مستوي إلى درجة كبيرة بحيث تكاد تنعدم فوقه أي علامة أو إشارة تنبه الملاحين إلى اقترابهم منه , و من هنا جاءت فكرة بناء منارة بحرية عالية تهدي السفن وترشدها إلى سواحل الأمان , ولأن الغرض من تشييد هذه المنارة استوجب أن تكون قريبة من ساحل البحر لذلك بحث معماريو ذلك الزمان عن بقعة ساحلية مثالية لمشروعهم و قد وجدوا ضالتهم في جزيرة صغيرة تدعى فاروس (Pharos ) يفصلها عن الساحل ممر بري.
كان للمدينة ميناءان احدهما يطل على ضفاف النيل من اجل الملاحة الداخلية و الأخر على سواحل البحر الأبيض المتوسط كانت تقصده السفن القادمة من الممالك و البلاد الأخرى , و قد واجه النشاط الملاحي المتزايد في ميناء الإسكندرية مشكلة رئيسية , فالساحل المصري مسطح و مستوي إلى درجة كبيرة بحيث تكاد تنعدم فوقه أي علامة أو إشارة تنبه الملاحين إلى اقترابهم منه , و من هنا جاءت فكرة بناء منارة بحرية عالية تهدي السفن وترشدها إلى سواحل الأمان , ولأن الغرض من تشييد هذه المنارة استوجب أن تكون قريبة من ساحل البحر لذلك بحث معماريو ذلك الزمان عن بقعة ساحلية مثالية لمشروعهم و قد وجدوا ضالتهم في جزيرة صغيرة تدعى فاروس (Pharos ) يفصلها عن الساحل ممر بري.
منارة تنتصب فوق جزيرة فاروس
|
أوكل
بطليموس الأول مهمة تصميم و تشييد المنارة إلى معماري إغريقي مشهور من
أهل الأناضول يدعى سوستراتوس , وقد بدأت أعمال البناء عام 290 قبل الميلاد
و استمرت لعشرين عاما , و خلال هذه الفترة مات بطليموس الأول فتولى حكم
مصر بعده ابنه بطليموس الثاني , و لحسن الحظ كان الحاكم الجديد لا يقل
حماسة عن والده من اجل إكمال المنارة التي استنزفت خلال عقدين من الزمن
الكثير من الجهد و المال لكنها تمخضت في النهاية عن تحفة معمارية لا مثيل
لها في العالم اجمع , ولا شك في أن زوار الإسكندرية في ذلك الزمان كانوا
يفغرون أفواههم عجبا و دهشة لهذا البناء الغريب الذي تناطح قمته السحاب ,
لقد كان أول منار أو فنار يبنى في التاريخ وأطول الأبنية التي شيدها
الإنسان القديم بعد الأهرامات , إذ بلغ ارتفاعه ما بين 115 – 130 متر أي
ما يعادل عمارة من أربعين طابقا و هو ارتفاع شاهق حتى في مقاييس زماننا
الحالي.
ما ان اكتمل البناء حتى حاز على
إعجاب و استحسان الجميع , لكن مصممه المهندس سوستراتوس وقف عند قاعدته
حزينا يتطلع إلى ما أنجزته يداه و قلبه يتقطع حسرات لأن الملك بطليموس
منعه من أن ينقش اسمه على البناء , فقد جرت العادة في ذلك الزمان على
كتابة اسم الملك فقط على الأبنية و الصروح العظيمة و ذلك تخليدا لذكراه
وتمجيدا لانجازاته , لكن سوستراتوس العبقري توصل إلى حيلة ذكية لكي يخلد
اسمه على تحفته المعمارية , إذ عمد إلى حفر العبارة التالية على إحدى
الصخور الموضوعة عند قاعدة البناء :
"سوستراتوس ابن دسفينس , من مدينة كانيوس , كرس هذا البناء للآلهة المنقذة من اجل حماية ملاحي السفن التي تمخر عباب البحر"
ثم
غطى هذه العبارة بلوحة من الملاط نقش عليها عبارة تمجد اسم الملك
بطليموس الأول , لكن بمرور السنين تآكلت اللوحة الملاطية و اندثرت تماما
بفعل عوامل التعرية فأصبحت.
برج هرقل في اسبانيا نسخة عن المنارة
|
معظم
ما نعرفه اليوم عن المنارة يعود إلى بعض الرسوم المنقوشة على العملات
القديمة و إلى بعض لوحات الفسيفساء الرومانية و كذلك إلى أبراج تعتبر
نماذج مصغرة للمنارة , و أشهرها هو برج هرقل (Tower of Hercules )
على سواحل اسبانيا و الذي تم بناءه في القرن الثاني للميلاد و يبلغ
ارتفاعه 55 مترا و يعتبره البعض نسخة مصغرة لمنارة الإسكندرية.
المصدر الثاني لما نعرفه عن البناء هو كتابات المؤرخين القدامى و خصوصا الرحالة العرب الذين مروا بالبناء في العصور الوسطى , فرغم أن معظم ما نقلوه لنا كان ممزوجا بالخيال و المبالغة , إلا انه يبقى احد أهم المصادر لأن من كتبها هم أشخاص شاهدوا المنارة بأعينهم قبل تهدمها و اندثارها التام. ومن هؤلاء المؤرخين و الرحالة المسعودي و المقريزي و ابن الأندلسي و الإدريسي و ابن جبير و ابن بطوطة و غيرهم.
المصدر الثاني لما نعرفه عن البناء هو كتابات المؤرخين القدامى و خصوصا الرحالة العرب الذين مروا بالبناء في العصور الوسطى , فرغم أن معظم ما نقلوه لنا كان ممزوجا بالخيال و المبالغة , إلا انه يبقى احد أهم المصادر لأن من كتبها هم أشخاص شاهدوا المنارة بأعينهم قبل تهدمها و اندثارها التام. ومن هؤلاء المؤرخين و الرحالة المسعودي و المقريزي و ابن الأندلسي و الإدريسي و ابن جبير و ابن بطوطة و غيرهم.
تتفق
جميع المصادر القديمة على أن البناء كان يتكون من أربع أجزاء رئيسية ,
القاعدة المربعة التي ينتصب فوقها البناء , ثم الجزء الأول من المنارة
نفسها و هو بناء مربع الشكل يبلغ ارتفاعه حوالي 56 متر , يليه جزء أو
طبقة أخرى مثمنة الأضلاع يبلغ ارتفاعها 28 مترا يعلوها منار دائري الشكل
هو الجزء الأخير من البناء و يبلغ ارتفاعه قرابة الثمانية أمتار , و في
أعلى نقطة من المنارة كان هناك تمثال برونزي يمثل احد الآلهة , ربما الإله
بوسيدون اله البحر. و بجمع أطوال أجزاء المنارة المختلفة يكون طولها ككل
مع احتساب ارتفاع القاعدة قرابة الـ 117 مترا. و يبدو أن المنارة كانت
تحتوي داخلها على العديد من الغرف التي كانت تستخدم لإيواء القائمين على
إدارتها. أما طريقة الصعود إلى أعلى المنارة فكانت تتم بواسطة سلالم على
شكل منحدرات و ذلك كي تتمكن الحيوانات من ارتقاءها.
كانت
المنارة من القوة و المتانة بحيث قاومت عوامل الطبيعة لخمسة عشر قرنا , و
خير برهان على صلابتها هو مقاومتها لاثنين و عشرون هزة أرضية ضربت
الإسكندرية خلال تلك القرون , وهذه الهزات كانت من القوة بحيث ذكرها
المؤرخون في كتبهم لكنها لم تؤثر على المنارة و لم تزحزحها عن مكانها قيد
أنملة و هذا دليل على مدى صلابة أحجارها و دقة رصها و وصلها إلى بعض , و
في ذلك يقول الإدريسي :
" إن المنارة لا
يماثلها شيء في قوة بنائها ونظامها ، فهي من أصلب الصخور صب بينها الرصاص
المنصهر حتى إن حجارتها لا ينفصل بعضها ، ويصل الماء إليها من جهة الشمال ،
وكانت ذات طبقات أربع كل منها أضيق قطرا من الطبقة التي أسفلها، وكان في
الطبقة العليا مصباح مكشوف وبها مواضع للنار يهتدي بها ومرآه عجيبة"
طبعا
الإدريسي حاله حال بقية المؤرخين المسلمين يتكلم عن الطبقة الرابعة من
المنارة ومصباحها بصيغة الماضي و هو دليل على أن الجزء الأعلى للبناء كان
قد ضاع و فقد وظيفته التي بني من اجلها منذ فترة طويلة , و هناك رواية
ظريفة يرويها لنا بعض المؤرخين المسلمين حول ذلك هو ان :
"
أحد ملوك الروم أرسل أحد أتباعه إلى الخليفة الاموي الوليد بن عبدالملك
بن مروان «.. وجاء هذا التابع واستأمن الوليد وأخبره أن ملك الروم يريد
قتله، ثم أنه يريد الإسلام على يد الوليد.. وبالطبع اقتنع الوليد وقربه من
مجلسه وسمع نصائحه.. خاصة أن هذا الرجل قام باستخراج دفائن وكنوز عديدة
من بلاد دمشق والشام وغيرها بكتب كانت معه فيها وصفات لاستخراج تلك
الكنوز.. وقتها زاد طمع الوليد وشراهته حتى قال له الخادم يا أمير
المؤمنين إن هاهنا أموالا وجواهر ودفائن للملوك مدفونة تحت منارة
الاسكندرية وقد قام بدفنها الاسكندر بعد استيلائه عليها من شداد بن عاد
وملوك مصر وبنى لها نفقا تحت الأرض به قناطر وسراديب وبنى فوق ذلك كله
المنارة.. وكان طول المنارة وقتها ألف ذراع والمرآة الكبيرة في أعلاه.
فقام الوليد بإرسال جيش من جنوده وخلصائه ومعهم هذا الخادم الداهية وهدموا نصف المنارة من أعلاها وأزيلت المرآة.. فهاج الناس وقد علموا أنها مكيدة من الروم.. وبعد أن نفذ الخادم خطته قام بالهرب في البحر ليلا عن طريق مركب أعده لذلك من قبل."
فقام الوليد بإرسال جيش من جنوده وخلصائه ومعهم هذا الخادم الداهية وهدموا نصف المنارة من أعلاها وأزيلت المرآة.. فهاج الناس وقد علموا أنها مكيدة من الروم.. وبعد أن نفذ الخادم خطته قام بالهرب في البحر ليلا عن طريق مركب أعده لذلك من قبل."
وبعيدا عن هذه
الرواية التي تبدو اقرب إلى الخيال , رغم أنها تعطينا فكرة عن أساليب
الجاسوسية و المخابرات قديما , فأن الرأي الراجح هو أن قمة المنارة تهدمت
نتيجة لعدم صيانتها و الإهمال الذي أصاب البناء ككل في العصور الوسطى. و
هذا الخراب , خصوصا بالنسبة للطبقات العليا , جعل المؤرخين يطرحون آراء و
تصورات مختلفة حول كيفية عمل المنارة , فالبعض يعتقد بأن مئات الحمير و
حيوانات الحمل الأخرى كانت تنقل أطنانا من الخشب يوميا وعلى مدار الساعة
إلى أعلى المنارة لكي يتم حرقها في المشعل العلوي او مواضع النار التي
ذكرها الإدريسي و غيره من المؤرخين المسلمين , و هناك أيضا من يعتقد أن
علماء الإسكندرية , و التي كانت منارا للعلم آنذاك , صمموا نظاما
هايدروليكيا متطورا يعمل بمثابة المصعد ويقوم بنقل مواد الإشعال و الإنارة
إلى الأعلى. و قد تحدث جميع المؤرخين أيضا عن مرآة سحرية عجيبة مثبتة على
قمة المنار كانت ترسل أشعتها الذهبية لإرشاد السفن الصديقة إلى الساحل و
أيضا لإحراق سفن الأعداء التي تروم مهاجمة الساحل المصري , و يبدو ان هذه
المرآة تحطمت لسبب ما في القرن الثامن الميلادي و عجزت السلطات آنذاك عن
وضع بديل لها , ربما لأنهم لم يعرفوا كيفية صنعها و آلية عملها. على
العموم تبقى طريقة عمل المنارة لغزا تاريخيا يستعصي حله بسبب اندثار
المنارة تماما و تبقى جميع الآراء في هذا المجال مجرد تخمينات لا يمكن
اثباتها.
قلعة قايتباي يعتقد انها شيدت من احجار المنارة
|
في
القرن الثالث عشر ظهرت صدوع خطيرة في جسم المنارة , وقد حاول السلطان
صلاح الدين الأيوبي ترميم المنارة و إصلاح ما خرب منها في عام 1272م
ميلادية , لكن يبدو ان حجم الخراب الذي كان قد أصاب البناء بمرور الزمن
كان قد أوهنه بشدة و جعل أمر إصلاحه اقرب إلى المستحيل. لذلك تهدمت أجزاء
كبيرة من المنارة في عام 1303م عندما ضربت هزة أرضية عنيفة الساحل الغربي
للبحر الأبيض المتوسط , وكان الخراب النهائي على يد زلزال أخر ضرب المنطقة
في عام 1323م فدمر ما تبقى من المنارة , و حين زارها ابن بطوطة بعد ذلك
بعدة أعوام كان ذلك البناء الشامخ قد تحول إلى خرائب و أنقاض لا يمكن
الدخول إليها. وفي عام 1480م اختفت آثار المنارة كليا عندما قام السلطان
قايتباي ببناء القلعة المشهورة التي تعرف بأسمه و استخدم في تشييدها
الأحجار المتناثرة حول خرائب المنارة.
اليوم
لازالت هناك العديد من الكتل الصخرية الضخمة المتناثرة في قاع البحر
بالقرب من المكان الذي كانت منارة الإسكندرية تنتصب عليه سابقا , و يعكف
فريق من المنقبين و علماء الآثار على دراسة هذه الصخور أملا في العثور على
نقوش أو كتائب تثبت أنها تعود للمنارة , لكن هناك من يعتقد أن هذه الصخور
لا تمت بصلة للمنارة و أنها كانت تلقى في البحر من قبل السلاطين المماليك
لصد هجمات السفن الصليبية التي حاولت غزو مصر أكثر من مرة.
تعليقات
إرسال تعليق