عجائب الدنيا السبع القديمة (3) : ضريح موسولوس


ضريح موسولوس في هاليكارناسوس

كانت حدود الإمبراطورية الفارسية الاخمينية في أوج عظمتها تمتد من مصر والأناضول غربا وحتى حدود الهند شرقا وكان الشاه الفارسي يدير هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف عن طريق مجموعة من الملوك المحليين الذين كان يطلق عليهم لقب ساتراب (Satrap ) كانوا يحكمون ولاياتهم وأقاليمهم بأسم الشاه فيجمعون له الضرائب ويدافعون عن حدود إمبراطوريته ويحشدون الجيوش للمشاركة في الحملات العسكرية التي يشنها على الأمم الأخرى، وفي المقابل كان هؤلاء الملوك يحصلون على قدر لا بأس به من الاستقلالية في إدارة الأقاليم الخاضعة لهم، وبسبب العدد الكبير لهؤلاء الملوك والحكام المحليين أطلق القدماء على الشاه الفارسي لقب ملك الملوك. وبالطبع لم يكن الشاه يترك الحبل على الغارب ليفعل ملوك الولايات ما يشاءون بدون علمه، فقادة الجيش في جميع أنحاء الإمبراطورية كانوا يعينون من قبله ولا يأخذون الأوامر إلا منه، كما كان له عيون وجواسيس من الموظفين الكبار في بلاط الملك المحلي يرفعون إليه تقاريرهم مباشرة فيخبرونه فيها عن كل شاردة وواردة وعن كل أمر وفعل قام به الساتراب. ورغم أن هذا النظام الإداري لم يكن أمنا على الدوام لأن الملوك المحليين كانوا كثيرا ما يتمردون ويعلنون استقلالهم خاصة في أوقات ضعف الإمبراطورية، إلا إن جميع الدول منذ القدم وحتى يومنا هذا أخذت بهذا النظام وما وظيفة الولاة والحكام والمحافظين اليوم إلا تجسيد لفكرة الساتراب القديمة.
من بقايا الموسولوس في تركيا
كان حكام مملكة كاريا من الملوك التابعين للشاه الفارسي، كانت مملكتهم الصغيرة تقع إلى الجنوب الغربي من الأناضول –تركيا الحالية- وتتمتع بقدر كبير من الاستقلالية رغم خضوعها للشاه. في عام 377 ق م توج موسولوس ملكا على عرش كاريا خلفا لوالده الملك هيكاتومنيوس، كان الملك الجديد متزوجا طبقا للتقاليد من أخته (1) أرتميزيا وقد حكم الاثنان معا لمدة تناهز الأربعة والعشرين عاما شهدت مملكتهما خلالها ازدهارا كبيرا فتوسعت حدودها لتضم عددا من المدن والأراضي المجاورة. وعلى الرغم من ان حكام كاريا كانوا تابعين للفرس الذين كانوا بدورهم يناصبون الإغريق العداء، إلا إن الثنائي الملكي كانا في غاية الإعجاب والشغف بالثقافة والفنون الإغريقية التي كانت قد بلغت أوج عظمتها وازدهارها آنذاك، وقد انفق موسولوس وزوجته أمولا طائلة في تشييد الأبنية الفاخرة والصروح العظيمة ذات الطراز الإغريقي في عاصمتهم هاليكارناسوس مستعينين بخبرات أشهر وامهر المهندسين والمعماريين الإغريق الذين تم جلبهم من بلاد اليونان إلى مملكة كاريا.
في عام 353 ق م مات الملك موسولوس وأحرقت جثته طبقا للتقاليد وقد خلفه على العرش زوجته الملكة أرتميزيا التي كان حزنها وجزعها لموت زوجها كبيرا لدرجة أنها لم تعد تغادر قصرها ألا لماما ويقال أنها لشدة تعلقها بزوجها الراحل كانت تشرب كل صباح كأسا من الخمر ممزوجة بالقليل من رماد جثته لاعتقادها بأن هذه الطريقة ستؤدي لإتحاد جسده مع جسدها.
مملكة كاريا واجهت بعض التحديات بعد فترة قصيرة من موت ملكها موسولوس، فالملك الراحل كان قد قهر جزيرة رودوس الواقعة في بحر ايجة، والآن بعد أن سمع الرودوسيون خبر موته قرروا الانتقام لهزيمتهم السابقة فأرسلوا سفنهم الحربية نحو مملكة كاريا لاحتلالها وتدمير عاصمتها هاليكارناسوس. لكن حين تناهى خبر الحملة إلى الملكة ارتميزيا عمدت إلى حيلة ذكية فقامت بإخفاء سفنها الحربية عند الجهة الشرقية للمدينة وتركت السفن الرودوسية تدخل الميناء من دون أية مقاومة، وقد ظن الرودوسيون بأن الملكة الحزينة فرت مع جيشها لعدم قدرتها على مواجهتهم، لكن ظنونهم سرعان ما خابت حين باغتهم أسطول كاريا المختبئ على حين غرة وأحاط بهم من كل جهة فاضطروا للاستسلام من دون قتال كبير. الملكة ارتميزيا لم تكتف بالاستيلاء على سفن العدو بل قررت تلقين رودوس درسا لن تنساه فألبست جيشها ملابس الجنود الأسرى وأرسلته نحو جزيرة رودوس على متن السفن الأسيرة التي اعتقد سكان رودوس بأنها عادت إليهم مكللة بالنصر فلم يحتاطوا لقتال جيش كاريا المتنكر الذي أخذهم على حين غرة واسقط جزيرتهم بسهولة.
لتخليد ذكرى زوجها الراحل قررت الملكة ارتميزيا بناء ضريح فاخر ليكون مثواه الأخير ولتدفن هي ايضا فيه بعد موتها، ولهذه الغاية بذلت أموالا طائلة في جلب امهر النحاتين والفنانين الإغريق ليشيدوا لها تحفة معمارية يبقى ذكرها خالدا على مر العصور.
تم بناء الضريح على إحدى التلال المشرفة على العاصمة هاليكارناسوس، الجزء السفلي من البناء كان عبارة عن منصة عالية استعملت الحجارة في بنائها وطرزت جوانبها الخارجية بلوحات جميلة تمثل صور الآلهة، وعند كل ركن من الأركان الأربعة للمنصة تم نحت تمثال يصور حراسا محاربين. المنصة مثلت ثلثي ارتفاع الضريح البالغ 45 مترا وكان يرتفع منها باتجاه القبر سلم حجري تحفه اسود رخامية أبدع النحاتون في صنعها.
أعلى المنصة تقع غرفة رخامية مربعة هي القبر الذي يضم الرفات الملكية، ويحيط بهذه الغرفة ستة وثلاثون عمودا رخاميا موزعة على الجوانب الأربعة بالتساوي، وقد افرغ النحاتون والرسامون القدماء خلاصة فنهم في هذا الجزء من البناء فزينوا جدرانه الخارجية بلوحات بارعة الجمال لمخلوقات خرافية مثل القنطور والمينوتور والحوريات وكذلك لوحات تصور بعض حروب الإغريق الأسطورية مع جيش المحاربات الأمازونيات.
الجزء الأخير من الضريح كان عبارة عن سقف حجري ضخم يتخذ شكلا هرميا وينتصب على قمته تمثال رخامي لأربعة خيول تجر عربة يقودها الملك موسولوس وزوجته ارتميزيا.
في عام 351 ق م ماتت الملكة ارتميزيا، أي بعد سنتين فقط على موت زوجها، ومع ان الضريح لم يكن مكتملا عند موتها إلا أن رماد جثتها و جثة زوجها الراحل تم وضعهما داخل القبر الرخامي في مراسيم مهيبة ذبحت خلالها مئات الحيوانات كقرابين للآلهة. ويقال إن النحاتين والمعماريين استمروا في بناء الضريح حتى بعد موت الملكة ارتميزيا لأنهم اعتبروه تخليدا لهم ولمهارتهم وفنهم الراقي.
إن عظمة وروعة ضريح موسولوس تكمن في المنحوتات الرائعة التي طرزت جوانبه، ويقال أن هذه التماثيل والمجسمات البديعة التي صورت البشر والآلهة والحوريات والمخلوقات الخرافية تم نحتها بواسطة أزاميل أربعة من أشهر وأعظم نحاتي الإغريق في ذلك الزمان وقد قام كل منهم بنحت وزخرفة جانب واحد فقط من جوانب الضريح الأربعة فكانت نتيجة عملهم الراقي تحفة فنية استحقت أن تكون إحدى عجائب الدنيا القديمة.
بيت المعبد في واشنطن مستوحى من تصميم الموسولوس
ضريح موسولوس ظل منتصبا في مكانه لمدة ستة عشر قرنا، لم يهزه سقوط مملكة كاريا بيد الاسكندر الكبير عام 334 ق م ولا هجمات القراصنة عام 62 ق م. لكن ما دمر البناء في النهاية كان الهزات الأرضية المتكررة التي ضربت المنطقة خلال القرون الوسطى والتي قوضت أحجار المبنى أخيرا في القرن الخامس عشر الميلادي. وقد زاد من خراب الضريح استعمال أحجاره الضخمة في بناء قلعة وحصن ضخم لفرسان المعبد المسيحيين الذين استمروا  في اقتلاع المزيد والمزيد من الأحجار مع كل هجمة يشنها الجيش العثماني عليهم حتى لم يتبقى من الضريح شيء.
فرسان المعبد اكتشفوا أثناء اقتلاعهم ونقلهم للأحجار غرفة سرية فيها توابيت ضخمة إلا أن محتوياتها تعرضت للسرقة لاحقا، ويعتقد المنقبين اليوم بأن تلك الغرفة كانت في الحقيقة غرفة القبر وأنها تعرضت لسرقة ونهب محتوياتها منذ زمن بعيد، ربما في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد. ورغم أن فرسان المعبد كان لهم اليد الطولى في تدمير الضريح إلا أنهم ساهموا في نفس الوقت في الحفاظ على بعض اللوحات والمنحوتات لأنهم استخدموها في تزيين أجزاء من قلعتهم، وفي القرن التاسع عشر قام بعض المنقبين الانجليز باقتلاع وتهريب هذه اللوحات إلى بريطانيا حيث تعرض اليوم في المتحف البريطاني.
1- الزواج الملكي بين الأشقاء كان تقليدا تلتزم به العديد من السلالات الحاكمة في العالم القديم، ورغم إن هذا الأمر قد يبدو اليوم مثيرا للاشمئزاز في نظر البعض، إلا إن الغاية الحقيقية من هذا الزواج كانت تهدف إلى حماية ثروة العائلة وإبقاء التاج حكرا على أبناء السلالة الحاكمة. أضف إلى ذلك أن العلاقات الاجتماعية بين أفراد العائلات الملكية كانت تختلف بشكل كبير عن تلك الموجودة عند العائلات من عوام الناس، فالأشقاء الملكيون كانوا بالكاد يعرف احدهم الأخر لأن اغلب الملوك القدماء كانت لديهم العديد من الزوجات والخليلات لذلك فأن الأمراء المولودون عن علاقات الملك الجنسية المتعددة كانوا في الغالب غير أشقاء تتم تربيتهم في كنف أمهات مختلفات ويكون لهم مربين ومعلمين مختلفين. كما إن التقاليد والأعراف عموما تختلف من مكان وزمان إلى أخر ومن ثقافة إلى أخرى، فمثلا الزواج من ابنة العم يعتبر أمرا مرغوبا بشدة لدى العرب (خصوصا في البيئات العشائرية والقبلية) لكنه يعتبر أمر مرفوض تماما (ممنوع قانونا في بعض المناطق) في أوربا وأمريكا حيث تعتبر ابنة العم من المحارم عرفا، طبعا ذلك لا يمنع وجود أوربيين متزوجين من بنات عمهم أو خالهم لكن الأمر بصورة عامة غير مقبول وغير مرحب به اجتماعيا.

تعليقات