هاروت وماروت

صورة خيالية لبابل القديمة .. حيث هبط الملكان هاروت وماروت

يقول الله تعالى في سورة البقرة:
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

سبب نزول هذه الآية:
يقول ابن كثير في تفسيره:
(وسبب ذكر قصة (هاروت وماروت) في القرآن الكريم أن يهود المدينة كانوا لا يسألون النبي محمدا صلى الله عليه وسلم عن شيء من التوراة إلا أجابهم عنه..فسألوه عن السحر فأنزل الله تعالى هذه الآية ..
وقال بعض السلف أنه لما ذكر نبي الله سليمان عليه السلام في القرآن قالت يهود المدينة :
ألا تعجبون لـ(محمد) يزعم أن ابن (داوود) كان نبيا ؟! والله ما كان إلا ساحرا يركب الريح ..
فأنزل الله هذه الآية ليكذب أقوالهم وليبرأ نبيه الكريم سليمان بن داوود عليهما السلام مما ينسبونه إليه..)
................................................................................................
لوح بابلي يظهر فيه ملكان يمسكان بشجرة الحياة البابلية
بدون كثير إطناب لا طائل من ورائه فقد وجدت روايات متعددة إضافة إلى رواية د.محمود بالفعل في العديد من المواقع التي توثق للقصة..
وبدون تدخل مني سأعرضها عليكم تاركا الحكم لكم..وإحدى الروايات مفادها ما يلي:
يقول ابن كثير في تفسيره:
(أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن أبي بكير عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
( إن آدم لما أهبط إلى الأرض قالت الملائكة :
أي رب أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
قال:
إني أعلم ما لا تعلمون
قالوا :
ربنا نحن أطوع لك من بني آدم
قال الله لملائكته :
هلموا ملكين من الملائكة فننظر كيف يعملان
قالوا :
ربنا هاروت وماروت
فركب الله فيهما الشهوة ثم أهبطا إلى الأرض
قال :
فمثلت لهم الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءاها فسألاها نفسها فقالت :
لا..حتى تكلما بهذه الكلمة من الإشراك..
وفي رواية (حتى تعبدا ما أعبد وتصليا له)-وكانت تعبد صنما من دون الله-
قالا :
والله لا نشرك بالله أبدا
فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت :
لا..حتى تقتلا هذا الصبي
فقالا :
لا والله لا نقتله أبدا
فذهبت ثم رجعت بقدح من خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت :
لا..إلا أن تفعلا ما طلبته منكما
فقالا:
الصلاة لغير الله أمر عظيم..وقتل النفس أمر عظيم..فلا سبيل إلى ما أمرتنا به فإن الله قد نهانا عن كل ذلك
فقالت:
إذن فلتشربا الخمر
قالا:
أهون الثلاثة شرب الخمر
فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي وسجدا للصنم..
فلما أفاقا قالت المرأة :
والله ما تركتما من شيء أثيم إلا فعلتماه حين سكرتما
فخيرا عند ذلك بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا لأنها زائلة والآخرة باقية..
وهما موجدان بوادي بابل معلقان من أرجلهما يعذبان طرفي النهار..
أشتهر البابليون بممارسة السحر .. خصوصا في مجال التنجيم والأبراج والفلك
وفي رواية:
فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما السحر فيتعلم منهما ما قص الله عنهما والله أعلم..
فكانا يعلمان السحر في بابل وكانا يقولان لمن جاءهما (إنما نحن فتنة فلا تكفر) فإن أبى أن يرجع قالا له:
ائت هذا الرماد فبل فيه
فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء وهو الإيمان ثم يخرج من الرماد دخان أسود يدخل في أذنه وهو الكفر..)
ويروى أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فقالت:
زوجي انصرف عني وزهد في وخلاني وحيدة وذهب ليتزوج بأخرى.. فجئت جارتي العجوز أشكو لها حالي.. فقالت لي:
إن تفعلي ما آمرك به فسوف يأتيك محبا عاشقا..
فوافقت بلا تردد..فذهبت ثم جاءت بالليل ومعها كلبان أسودان ضخمان فركبت واحدا وأمرتني بركوب الآخر..
ثم انطلقنا في غياهب الظلمات لا أدري أين نحن..وإذا بوادي فيه رجلين معلقين من قدميهما..
فقالت لي رفيقتي :
تقدمي وإن سألاك مرادك فقولي جئت أتعلم السحر..وإن نازعاك فأثبتي
فتقدمت وقال لي أحدهما:
لم جئت؟
قلت:
لأتعلم السحر
فقال لي:
اذهبي إنما نحن فتنة..فارجعي ولا تكفري
فقلت:
لا إني أريد أن أتعلم السحر
فقال:
فاذهبي خلف ذلك التنور فبولي على الرماد هناك..
فذهبت..ولما وصلت هناك خفت ورجعت فقالا لي:
ماذا رأيت؟
قلت:
لم أر شيئا
فقالا لي:
كذبت فارجعي ولا تكوني من الكافرين
فتذكرت هجران زوجي..فتشجعت وقلت:
لا إني أريد أن أتعلم السحر
فقالا لي:
فاذهبي وبولي هناك
فذهبت وبلت..فلما رجعت قالا لي:
أفعلت؟
فقلت:
نعم
قالا:
فماذا رأيت؟
قلت:
رأيت فارسا منيرا يخرج منى حتى وصل الى عنان السماء ثم اختفى ولم أراه
فقالا لي:
صدقت..فهذا هو إيمانك قد خرج منك (
وفي رواية:
(وإذا برجل مر بهما فلما رآهما فزع منهما فقال:
لا اله إلا الله
فقالا:
لا اله إلا الله..من أي أمة الرجل؟
قال:
رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
فقالا:
أبعث محمدا؟؟
قال:
نعم
فاستبشرا وفرحا فقال لهما:
لم فرحتما؟
فقالا:
لأنه قد بعث نبي الساعة وسوف يزول عنا العذاب)

هذا ما تبقى من باب .. فهل لازال الملكين يتعذبان بين اطلال هذه الخرائب ؟!
وهاكم رواية أخرى وجدتها مذكورة نصا في تفسير الطبري:
(إن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن (إدريس) -عليه السلام-عيروهم بذلك وأنكروا عليهم وقالوا لله:
إن هؤلاء -الذين جعلتهم خلفاء في الأرض واخترتهم- يعصونك.
فقال تعالى:
لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثل ما يفعلون
قالوا:
سبحانك ربنا ما كان ينبغي أن نعصيك.
قال الله تبارك وتعالى:
اختاروا ملكين من خياركم أُهبطهما إلى الأرض.
فاختاروا هاروت وماروت..وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم..
فركب الله فيهم الشهوة التي ركبها في بني آدم وأَهبطهم إلى الأرض..
وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق..ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر..
فثبتا على ذلك يقضيان بين الناس يومهما..
فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء..
فما مر عليهما شهر حتى افتتنا..
وذلك أنه اختصمت إليهما ذات يوم امرأة تسمى (الزهرة) وكانت من أجمل النساء وكانت ملكة في قومها بفارس.. فلما رأياها أخذت بقلبيهما فراوداها عن نفسها فأبت- وقالت مثل ما قالت في الرواية الأولى إلى أن عرضت عليهما الخمر- فرفضا ثم قالت:
لا تدركاني حتى تعلماني الذي تصعدان به للسماء..
فقالا:
نصعد باسم الله الأعظم
فقالت:
فما أنتما بمدركي حتى تعلمانيه
فقال أحدهما لصاحبه:
علِّمها
فقال:
إني أخاف الله
فقال الآخر:
فأين رحمة الله؟
فعلماها ذلك فتكلمت به..فصعدت للسماء..
فمسخها الله كوكبا..
فهو كوكب (الزهرة)..
وخير الملكين بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا.)

يقول المعارضون لتلك الروايتين:
1-يقول ابن كثير في نهاية روايته لهذا الحديث:
)وهذا حدِيث غريب من هذا الوجه ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء)
أي أنه لم يستسغه بمنطقه وإنما ذكره من باب الأمانة في النقل ليس إلا..
كما أن هناك الكثير من رواة الأحاديث الذين أقروا بأن هذا الحديث حديث ضعيف مثل شعيب الأرناؤوط الذي ذكر أنه حديث ضعيف وإسناده ضعيف وذكر فيه ابن حيان وهو مجهول
2-لا يمكن أن يوجد من الملائكة من يعصى الله ويشرب الخمر ويقتل ويرتكب الفاحشة بل ويعلم الناس السحر..فالملائكة قال فيهم الله سبحانه وتعالى:
(لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم (6)
وأن الله قد أمرهما بتعليم الناس السحر اتقاء لشره وليس لاستخدامه فيما يغضب الله كمن يتعلم دراسة السموم اتقاء لشرها
في حين يقول المؤيدون لتلك الرواية:
1- هاروت وماروت نزلا ليظهرا للناس الفرق بين السحر المطلوب تجنبه وبين المعجزة التي هي دليل نبوة الأنبياء عليهم السلام فكانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم تشجيع له كأن يقولا: لا تفعل كذا كما لو سأل سائل عن صفة الزنا أو القتل فأُخبر بصفته ليجتنبه أو يقولا: فلا تكفر أي فلا تتعلم السحر معتقدا أنه حق فتكفر
2- إن عصيانهما لله لا ينفي كونهما ملكين من الملائكة من عدة وجوه أهمها:
أ- نص آية سورة التحريم من بدايتها:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)
وهذا معناه أن الملائكة المذكورين في هذه الآية هم الملائكة الموكلين بالنار (أي الزبانية) وليس عموم الملائكة..
ب- أن هذين الملكين سبق في علم الله لهما هذا فيكون تخصيصا لهما فلا تعارض حينئذ..
مثلما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق..مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله
ج-يقول ابن حجر الهيتمي في (الزواجر):
(إن عصمة الملائكة دائمة ما داموا بوصف الملائكة أما إذا انتقلوا إلى وصف الإنسان فلا)
3- كون ابن كثير يقول إنه حديث غريب فهذا ليس معناه أنه ضعيف حيث أنه استطرد قائلا:
(ورجاله كلهم ثقات)..
ثم إن راوي الحديث الأساسي هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

السبي البابلي لليهود .. الكثير من الاسرائيليات مصدرها الاساطير البابلية
انتهت أولى الروايات على اختلاف ألفاظها ولكن اتفاقها ضمنيا..
والآن مع ثانية الروايات:
وجدت في تفسير الطبري أن ابن جرير ذهب إلى أبعد من ذلك حيث زعم أنهما ليسا (ملكين) بفتح اللام بل (ملكين) -بكسر اللام-من ملوك بابل من البشر وأن الله قد امتحنهما بذلك..
يقول الطبري في تفسيره (جامع البيان في تفسير القرآن) :
( يعنـي بقوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ } الفريق من أحبـار الـيهود وعلـمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله علـى موسى عليه السلام وراء ظهورهم تـجاهلا منهم وكفرا بـما هم به عالـمون كأنهم لا يعلـمون..فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلـمون أنه منزل من عنده علـى نبـيه عليه السلام ونقضوا عهده الذي أخذه علـيهم فـي العمل بـما فـيه وآثروا السحر الذي تلته الشياطين على ملك سلـيـمان بن داود فـاتبعوه وذلك هو الـخسران والضلال الـمبـين)..
فتأويل الآية على هذا { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فيكون قوله: ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه المقدم
فإن قال لنا قائل:
كيف وجه تقديم ذلك؟
قيل:
وجه تقديمه أن يقال:
{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذين يعلمانهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس..
وبهذا فقد وجب طبقا للآية أن تكون الشياطين هي التـي تعلـم هاروت وماروت السحر وتكون السحرة إنـما تعلـمت السحر من هاروت وماروت عن تعلـيـم الشياطين إياهما..
فالقرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله غير الوحي إلى الأنبِياء..
ونص بذلك نصوصا صرِيحة مفادها أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال:
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء:7]
وقال منكرا طلب إنزال الملك:
(وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) [الأنعام:8]
وقال في سورة الفرقان:
(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)
إلى قوله:
(فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)[الآيات:7-9]
وقد قرأ ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والزهري الملكين بكسر اللام)

الآثار البابلية لم تذكر أي شيء عن الملكين هاروت وماروت
انتهى كلام الطبري..وهو ببساطة يريد أن يقول:
1- السحر لم ينزل على الملكين (جبريل وميكائيل) ولم ينزل على الملكين (داود وسليمان). .
2- أصل السحر من الشياطين
3- أول مكان انتشر فيه السحر هو بابل (وهذا يتوافق مع الدراسات التاريخية)
4- هاروت وماروت رجلان من الملوك كانا مقيمين ببابل تعلما السحر من الشياطين وعلماه الناس بعد ذلك.. وكانا يحذران الذين يتعلمون السحر على أيديهما أنه عمل يؤثر على عقيدة ممارسه لأنه يؤدي إلى الكفر..
يقول المعارضون:
1-التاريخ لم يذكر أبدا وجود ملكين بهذين الاسمين قد حكما بابل في أي عصر من العصور وهذا يتنافى مع كونهما بشرا ولا ريب أنهما لو كانا بشرا لطبقت شهرتهما الآفاق كونهما أول من علم الناس السحر ولذكرهما التاريخ..
2-يفترض أن يتمثل الملكان في صورة بشرية وذلك لقوله تعالى في الآية (9) من سورة الأنعام:
(ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون)
وقد صح في السنة أن جبريل عليه السلام كان يأتي أحيانا في صورة دحية الكلبي
وهنا نجد الفيلسوف الشهير ابن حزم الأندلسي قد ذهب لأبعد من ذلك حيث زعم أن هاروت وماروت من ملوك الجن وليس البشر..من قوله (ما تتلوا الشياطين)..ومعلوم أن هناك شياطين من الإنس وشياطين من الجن..
وذلك ردا على المعارضين لذلك التفسير..

والآن دعوني أعرض عليكم الرواية التي أرى أنها أدق الروايات بلا جدال..
فأعيروني أسماعكم دام فضلكم..

قال ابن كثير والطبري وغير واحد من المفسرين:
(عن شهر بن حوشب قال : لما سلب سليمان عليه السلام ملكه* كانت الشياطين تصعد إلى الفضاء فتصل إلى الغمام والسحاب حيث يسترقون السمع من كلام الملائكة الذين يتحدثون ببعض ما سيكون بإذن الله في الأرض من موت أو أمر أو مصائب فيأتون الكهنة الكفار الذين يزعمون بأنهم يعلمون الغيب ويخبرونهم بما سمعوا..
فتحدث الكهنة الناس به فيجدونه كما قالوا..
فلما ركنت إليهم الكهنة أدخلوا الكذب على أخبارهم فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة..
وكانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان فيكتبوا مثلا:
(من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا..)
فلما ينتهوا يجعلوا عنوانه:
هذا ما كتب آصف بن برخيا عن الملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم
وفشا في بني إسرائيل أن الجن والشياطين يعلمون الغيب والعياذ بالله..
فلما استعاد سليمان ما وهبه الله بعث جنوده وجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه..
ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يقترب من الكرسي وإلا احترق..
وقال سليمان عليه السلام:
لا أسمعن أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه
وكانت الشياطين مغتاظة من سليمان لأن الله أعطاه سر التحكم فيهم..فكانوا يطيعونه مع كفرهم حيث كانوا يخدمونه يعملون له أعمالا شاقة كما بين القرآن..
ولما مات سليمان وقل عدد العلماء الذين عرفوا ماذا فعل سليمان بكتب السحر وأنه دفنها تحت كرسيه ومضى جيل وأتى غيره تمثل إبليس في صورة إنسان ثم أتى جماعة من بني إسرائيل فقال لهم:
هل أدلكم على كنز لا ينفد بالأخذ منه؟
قالوا:
نعم
قال:
إن سليمان لم يكن نبيا إنما كان ساحرا فاحفروا تحت كرسيه
فاعترض المسلمون وغضبوا وقالوا:
بل كان سليمان نبيا مسلما مؤمنا
وعاود إبليس الكرة مرارا حتى صدقه بعضهم من ضعاف النفوس وذهب معهم وأراهم المكان ووقف غير بعيد لا يستطيع الاقتراب وإلا احترق.. فقالوا له:
اقترب يا هذا
فقال:
لا ولكنني ها هنا بين أيديكم فإن لم تجدوا الصندوق فاقتلوني
فحفروا فوجدوا الصندوق وأخرجوا تلك الكتب..فلما أخرجوها قال إبليس اللعين:
ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا السحر وبه سخر الجن والإنس والطير والريح
فقال الكفار:
لقد كان سليمان ساحرا..هذا سحره به كان يأمرنا وبه يقهرنا
ثم طار إبليس وفشا بين الناس أن سليمان كان ساحرا والعياذ بالله وكذلك صاحبه وكاتبه آصف بن برخيا الذي جلب له عرش بلقيس بكرامة أكرمه الله بها (الذي عنده علم من الكتاب)-وسيكون لي مقال مع هذه القصة بإذن الله-
وأخذ كفار بني إسرائيل يعملون بما في تلك الكتب..
والحق أن السحر ليس من عمل الأنبياء ولا الأولياء وما كفر سليمان لأنه نبي من عند الله منزه عن الكبائر وصغائر الخسة وعن كل القبائح والرذائل فضلا عن أنه منزه عن الكفر..
فلما كثر السحرة الذين تتلمذوا على أيدي الشياطين وادعوا النبوة وعلم الغيب وتحدوا الناس بالسحر أنزل الله ملكين من ملائكته الكرام وهما هاروت وماروت ليعلما الناس ما هو السحر فيتمكنوا من تمييز السحر من المعجزة التي هي دليل نبوة الأنبياء عليهم السلام..
ويتبين كذب السحرة في دعواهم النبوة ولكي لا يلتبس على بعض الناس حالهم فإن السحر يعارض بسحر أقوى منه -فقد يبطل السحر ساحر آخر-..
وفيه التمويه والتخييل على الناس وخدع وشعوذات..
ومن جهة أخرى هو نوع من خدمة الشياطين للسحرة لأن الشياطين أجسام خفيه لا يراها الناس ويكون السحر أحيانا بوضع تركيبة من مواد معينة تجمع وتحرق ويتخذ منها رماد وحبر ويقرأ عليها كلمات وأسماء ثم تستعمل في ما يحتاج إليه من السحر..
وأما المعجزة فهي أمر خارق للعادة لا يعارض بالمثل يظهر على يد النبي وقد يكون مقرونا بالتحدي..
فكانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم تشجيع له كأن يقولا:
لا تفعل كذا-كما لو سأل سائل عن صفة الزنا أو القتل فأُخبر بصفته ليجتنبه-
لذلك كانا يستدركان قائلين:
فلا تكفر
أي فلا تتعلم السحر معتقدا أنه حق يجلب الخير أو يدفع الضرر فتكفر
كما كانا يعلمان الناس كيفية اتقاء شرور السحر إن سحروا..
وكانا لا يعلمان أحدا حتى ينصحاه بأنهما جعلا ابتلاء واختبارا قائلين:
إنما نحن ابتلاء من الله وفتنة فمن تعلم منا السحر واعتقده وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان..
وبين الله في القرآن أن الملكين أقصى ما يعلمانه هو كيف يتم التفريق بين الرجل وزوجته..وأن ضرر ذلك لا يكون إلا بمشيئة الله لأن الله تعالى هو الذي يخلق النفع والضرر..
ثم أثبت تعالى أن من يتعلم السحر ويرتكبه فهو ضرر عليه ويعود عليه بالوبال.
وهاروت وماروت ملكان كريمان من ملائكة الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون..
فلا صحة أبدا للقصة التي تقول إن هاروت وماروت ملكان التقيا بامرأة جميلة ففعلا معها الفاحشة فهذا الكلام كفر بين وفيه تكذيب للقرآن الكريم.
فليحذر الناس من مثل هذه القصص المكذوبة والمفتراة على دين الله وأنبيائه وملائكته..
والخلاصة: أن الله تعالى إنما أنزلهما ليحصل بسبب إرشادهما الفرق بين الحق الذي جاء به سليمان وأتم له الله به ملكه وبين الباطل الذي جاءت الكهنة به من السحر ليفرق الناس بين المعجزة والسحر..
وكل ما عدا ظاهر القرآن في حال هذين الملكين فهو من الأكاذيب يردها ما ثبت من عصمة الملائكة على وجه العموم دون ورود استثناء لهذا لأصل العام كما قال تعالى:
( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء/26-28 .
وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى..
وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال)

انتهى كلام ابن كثير..
وإن كان لي أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع فسأقول:
يبدو أن بابل قد بلغت مبلغا عظيما في علوم السحر وهذا مؤشر على انحراف مسار الحضارة البابلية..
وقد تجلت رحمة الله تعالى بإنزال ملكين لمواجهة ذلك الشر المستطير..وتمثل الملكان في صورة بشرية كما أسلفت بالدليل..
وواضح من النص الكريم أن مهمة الملكين تمثلت في تعليم الناس أمورا تتعلق بالسحر الذي استفحل شره في بابل..
وبما أنهما ملكان وبما أن ما يعلمانه منزل عليهما فلا بد إذن أن يكون أمرا إيجابيا..
والأقرب للمنطق أن يكون هذا العلم يتعلق بمضادات السحر من أجل إبطاله..
وبذلك لا نحتاج إلى لي عنق النص لأن هذا هو ظاهر النص واللائق بمقام الملائكة وما ينزل عليهم...
وهنا قد يقول قائل:
كان يمكن أن ينزل هذا العلم المتعلق بإبطال السحر على نبي من الأنبياء فلماذا أنزل على ملكين متجسدين في الصورة البشرية ؟
والجواب على ذلك يتلخص في كون الأمر لا يناسب مقام النبوة والرسالة لأن الكفار قد درجوا على اتهام الأنبياء والرسل بممارسة السحر بل لقد خلط أهل الكفر بين المعجزة والسحر..
من هنا وحتى لا تكون الشبهة وحتى لا يتم الخلط تم تجنيب الرسل الخوض في مضادات السحر -التي تحتم الخوض في السحر-..
وواضح من النص الكريم أن الملكين يخلصان النصيحة لكل من تعلم مضادات السحر ويظهر ذلك جليا في استخدام (ما ومن) في قوله تعالى: (وما يعلمان من أحد)..
وهذا الحرص منهما يدل على خطورة الأمر وحساسيته..وتظهر هذه الخطورة في إمكانية انحراف المتعلم وانخراطه في أمور السحر لذا كانت النصيحة المشددة: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) قبل البدء في التعليم..
وهنا قد يتساءل أحدكم:
من أين تأتي الخطورة وإمكانية الانحراف وهما يعلمان الناس مضادات السحر وكيفية الوقاية منه؟!
وأجيب قائلا إن تعليم المضادات للسحر يقتضي التعريف بحقيقة السحر أولا ثم تعليم أنواع المضادات لهذا السحر..ومن هنا يصبح المتعلم ملما بأساليب السحر وأنواعه كما هو الأمر في الصيدلي أو الطبيب الذي يتعلم أنواع السموم ومضاداتها.
من هنا لابد من التذكير الدائم والوصية المتكررة -لأن المتعلم أصبح قادرا على ممارسة السحر بعد تعلمه لمضاداته -ومثل هذه الإمكانيات تغري النفوس غير القوية بالانحراف وممارسة السحر والكفر..
وبعد أن تؤدى النصيحة ويتم التحذير المشدد يتم تعليم ألوان من السحر وعلى وجه الخصوص الكيفية التي يتم بها التفريق بين المرء وزوجه..
أما لماذا كان التركيز على أمر التفريق بين المرء وزوجه فلا شك أن ذلك من أشر الشرور فقد صح في الحديث الشريف أن إبليس يقرب من أتباعه من يستطيع أن يوسوس للزوجين بما يفضي إلى طلاقهما..
كما أن التفريق بين الأزواج هو من أهم مقاصد السحر والسحرة فحيث تكون المودة والرحمة والسكينة يكون الخير..وما السحر إلا محض شر..
وأتوقف عند قوله تعالى:
(وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ)
وهذه حقيقة ينبغي أن تكون ماثلة دائما في ضمير المؤمن فلا يكون في هذا الكون شيء إلا بإذنه تعالى..فليكن التوجه أولا وأخيرا إلى الله تعالى..
وأيضا:
(ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم)
وهذا يدل على أن السحر لا علاقة له بالنفع بل كله يتعلق بالمضرة ويخلو من المنفعة..
من هنا كانت ممارسة السحر من أكبر الكبائر..ولو كان في السحر بعض الجوانب النافعة لأمكن عقلا أن يأذن الشرع بممارسة هذه الجوانب..أما تعلم مضادات السحر فلا تتعلق بالمنفعة وإنما بدفع المضرة..من هنا كانت وصية الملكين مشددة لكي لا ينزلق المتعلم في متاهات السحر ولكي يسخر علمه في دفع الضرر.
وقد يتوهم البعض أن المقصود بقوله تعالى:
(ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم)
أنهم كانوا يتعلمون ما يضر فقط وهذا الفهم خاطئ لعدة أمور منها:
أولا: لم يثبت أن للسحر جوانب نافعة..
ثانياً: لا يعقل أن يتعلموا ما يضرهم فقط ويتركوا تعلم ما ينفعهم لأن ميل الإنسان إلى جلب المنفعة لنفسه أقوى من ميله إلى إلحاق الضرر بغيره..
فقد قال تعالى (يضرهم) ولم يقل (يضر غيرهم) والعقل يقول إن الإنسان لا يتعلم كيف يضر نفسه ويهمل ما ينفعها..
هذا والله أعلى وأعلم...


تعليقات