ترومان شو .. وقصة الشقيقات ديون



الدنيا مسرح كبير .. عبارة قالها وليم شكسبير قبل عدة قرون وما أظنه جانب الصواب فيما قال ، فنحن بالفعل ممثلون ، نادرا ما نتصرف على سجيتنا ، ربما في خلواتنا فقط ، أما أغلب الأوقات فنحن نمثل على بعض ، نتقمص الشخصية التي نعتقد بأنها ستلقى قبولا لدى الآخرين رغم أنها قد لا تعكس حقيقة ميولنا وشخصيتنا . فترى فينا من يرتدي جلباب العفاف والفضيلة وهو أكثر الناس انقيادا لشهواته ونزواته بالخفاء ، وترى من يؤدي دور النزيه الأمين وهو لا يتورع عن الرشوة والسرقة بالسر ، وهناك أيضا من يتقمص دور الناصح المخلص فيما قلبه يفيض بالحسد والكراهية ، وهناك من يضحك في وجهك لكنه يغتابك ما أن تلتفت عنه .. الأمثلة كثيرة .. مثلما هي كثيرة الأدوار التي نؤديها على مسرح الحياة وصولا إلى المشهد الأخير حينما ننزل عن الخشبة إلى الأبد .
لكن ماذا لو كان كل ذكرناه أنفا ليس مجرد تعبير مجازي ، ماذا لو كانت الحياة حقا مسرحية أو تمثيلية ضخمة ؟! .. أي أنها برمتها ليست سوى كذبة جرى تلفيقها واختلاقها بعناية وتم ترتيب وتوجيه أحداثها بدقة وبراعة ... ماذا لو كان صديقي أحمد هو مجرد ممثل ؟ .. ما أن نفترق حتى يغير ملابسه ويتقاضى أجره ، وربما شتمني لأني أطلت الحوار معه فأخرته . وماذا لو كان أبي وأمي وأخوتي هم مجرد ممثلون ما أن أترك المنزل حتى يعودون لتقمص شخصياتهم الأصلية ، وقد لا أعني لهم شيئا سوى أحمق يوفر لهم العمل والمال ! ... حتى أنتم أعزائي القراء .. نعم حتى أنتم .. ربما تم تأجيركم للتعليق على مقالاتي .. ما أدراني أنا ! .. هل رأيتكم .. هل أعرفكم ؟ .. هل أعلم علم اليقين بأن الشمس هي جرم عملاق يتأجج بالنيران كما أخبروني طوال حياتي .. لا .. ربما هم يكذبون ، ربما الشمس مجرد مصباح كبير علقوه في كبد السماء !! .
ترومان عاش حياته برمتها داخل استوديو من دون أن يعلم ..
قد يبدو ما أقوله سخيفا وأقرب إلى الهذيان ، لكن ثق عزيزي القارئ بأنه يوجد في هذا العالم المليء بالغرائب أشخاص يؤمنون فعلا بأن حياتهم برمتها هي جزء من برنامج تلفزيوني ، وأن جميع من حولهم ممثلون ، وأن هناك كاميرات تراقبهم على مدار الساعة .
إنه مرض نفسي يعرف بأسم متلازمة ترومان (Truman Syndrome ) ، وهو نوع من أنواع جنون الارتياب – بارانويا - حيث يتبنى المريض أوهاما وأفكارا لا أساس لها من الصحة ولا وجود لها على أرض الواقع ، كأن يعتقد بأن جميع من حوله يتآمرون عليه ويضطهدونه .
خلال السنوات القليلة المنصرمة حدثت طفرة كبيرة في أعداد المصابين بهذه المتلازمة ، فلم يعد أمرا نادرا أن تجد أحدهم يصرخ من فوق عمارة طالبا إيقاف البرنامج الذي يراقب حياته ! .. أو أن يقوم أحدهم بمهاجمة وإيذاء الآخرين ظنا منه بأنهم يمثلون عليه ويراقبونه ، كما فعل الأسترالي انطوني واترلو الذي أقدم على نحر أبيه وأخته بالسكين عام 2009 لاعتقاده بأنهم يصورون حياته ويعرضونها على الناس كجزء من برنامج تلفزيوني يهدف بالنهاية إلى دفعه للانتحار . وهناك أيضا الطبيب وليم جون الذي اعتدى بالضرب المبرح عام 2006 على سيدة وحاول خطف أبنها ذو العامين لاعتقاده بأن حياته كلها عبارة عن برنامج تلفزيوني وبأن جميع من حوله ممثلون .
حتى الماء والسماء مزيفين ..
متلازمة ترومان تعد من المشاكل العقلية الحديثة ، لا يزيد عمرها عن العقدين ، أخذت أسمها من شخصية سينمائية تقمصها الممثل الكوميدي جيم كاري عام 1998 في الفيلم الشهير استعراض ترومان (The Truman Show ) والذي يدور حول شاب يدعى ترومان عاش حياته بأكملها كبطل لأحد برامج تلفزيون الواقع وهو غافل عن حقيقة أن جميع من حوله .. الأهل .. الأصدقاء .. الزوجة .. وحتى المارة في الشارع .. هم ممثلون ، وأن كل ما يحيط به .. السماء .. البحر .. النجوم .. الشمس .. والبلدة التي يعيش فيها .. هي أشياء مزيفة ، مجرد ديكور .
بالنسبة لترومان فأن الأستوديو العملاق الذي يعيش فيه هو عالمه الحقيقي ، فقد أخذوه وهو طفل صغير ووضعوه هناك وأحاطوه بآلاف الكاميرات التي تراقب وتسجل كل صغيرة وكبيرة في حياته على مدار الساعة لتعرضها على ملايين المشاهدين حول العالم .
لكن بالرغم من الحرص الكبير الذي أبداه كادر البرنامج ، خصوصا المخرج كريستوف ، في أن يبقى ترومان غافلا عن حقيقة حياته المزيفة ، إلا أن بعض الأخطاء التي تقع سهوا خلال العمل تسهم في زرع بذرة الشك والريبة في نفس ترومان ، كالاختفاء المفاجئ لحبيبته سيليفيا التي تم فصلها من البرنامج لأنها أرادت أن تفشي له بالحقيقة . وفي إحدى المرات يسقط مصباح كبير - من مصابيح الأستوديو - على ترومان فيكاد يصيبه ، وهو ما يثير تعجبه وحيرته ، إذ كيف لمصباح أن يسقط من السماء ؟! .. وفي مرة أخرى يلتقط راديو سيارته حوارا بين كادر البرنامج وهم يحاولون تعقبه . أضف إلى ذلك تكرار بعض المواقف يوميا في نفس التوقيت ومن قبل نفس الأشخاص ، ومحاولة زوجته المستمرة للترويج للسلع التي تشتريها كأنها تقدم إعلان .
في النهاية يجد ترومان طريقه غلى الحقيقة ..
بالنهاية يدرك ترومان بأن ما يجري حوله غير طبيعي ، فيقرر أن يغادر الجزيرة والبلدة الصغيرة التي ترعرع فيها ، والتي هي في الحقيقة ليست سوى جزء من أستوديو شاسع المساحة ينقسم ما بين أرض وبحر وسماء . وبرغم كل المعوقات التي يضعها المخرج كريستوف في طريق ترومان لمنعه من المغادرة ، إلا أنه يفاجئ الجميع وينجح أخيرا في الانعتاق من حياته المزيفة .
فيلم ترومان شو لاقى نجاحا كبيرا في شباك التذاكر ، واستحسانا فائقا من قبل النقاد ، وعده البعض أروع ما قدمه الممثل جيم كاري طوال مسيرته الفنية . كما أن الفيلم سرعان ما أصبح علامة فارقة في تاريخ السينما لكونه من أوائل الأفلام التي تطرقت لبرامج تلفزيون الواقع التي شهدت رواجا كبيرا في العقود الأخيرة ، مثل برنامج الأخ الأكبر وستار أكاديمي وغيرها . فالفيلم يحمل رسالة نقدية لهذه البرامج القائمة على تزويق وتسويق الزيف والوهم وتقديمه للمشاهد على أنه واقع ، فيما هو أبعد ما يكون عن الواقع لأنه يخضع بالنهاية لأهواء القائمين على البرنامج ولحسابات الربح المادي .
الفيلم يحمل أيضا في طياته مدلولات دينية فلسفية تصور سعي الإنسان الدائم للوصول إلى الحقيقة رغم المصاعب والمغريات التي يضعها الشيطان في طريقه .
أخيرا ينبغي أن أقول بأن ما دعاني اليوم للكتابة عن فيلم ترومان شو ، وأنا عادة لا أكتب سوى عن الأفلام المقتبسة عن قصة حقيقية ، هو التشابه الكبير بينه وبين قصة حزينة قرأتها صدفة بينما كنت أنبش كعادتي على النت .. قصة خمسة شقيقات تعرضن لاستغلال فظيع من قبل الجميع ، حتى من قبل الحكومة . أخذوهن من أمهن وهن رضيعات وحبسوهن داخل بناية تحت الحراسة المشددة ، تماما مثل ترومان . ولعدة سنوات تم عرضهن على ملايين الناس الذين تقاطروا للتفرج عليهن ، وربحت الحكومة بسببهن قرابة النصف مليار دولار ! .
قد تتعجب عزيزي القارئ وأنت تقرأ هذه الكلمات .. فتيات رضيعات يجري احتجازهن ويحققن أرباحا مليونية من خلال عرضهن للجمهور .. ما القصة ؟ .. هل هن قادمات من كوكب آخر ؟ ..
لا هن فتيات عاديات ، كل ما في الأمر هو أنهن نادرات من حيث ولادتهن .

الشقيقات ديون .. التوأم الذي شغل الدنيا

الشقيقات ديون ..
جميعنا سمعنا بالتوائم وحتما رأينا بعضها ، وغالبا ما يكون التوأم من النوع ثنائي (twins ) ، أي عبارة عن طفلين فقط ولدين .. أو بنتين .. أو ولد وبنت . وفي حالات نادرة يكن التوأم ثلاثي (triplets) أو رباعي (quadruplets ) ، وفي حالات فريدة جدا يكون خماسي (quintuplet ) فما فوق .
طبعا قد يقول بعضكم بأنه سمع أو قرأ عن سيدات يلدن عشرة أو أكثر من الأطفال من بطن واحدة ، نعم يحدث ذلك ، لكن في جميع الحالات لا يعيش أولئك المواليد سوى لساعات معدودة . وعليه فأن العبرة في مسألة التوائم لا تتمثل في عدد المواليد ، بل في عدد الذين يتبقون على قيد الحياة . وحتى ثلاثينات القرن المنصرم لم يعرف العالم ولادة أكثر من أربعة توائم وبقائهم على قيد الحياة ليتجاوزا سن الطفولة ، كان ذلك أمرا مستحيلا بنظر معظم الناس والأطباء .
لكن المستحيل أضحى حقيقة بالنسبة لفلاح فقير يدعى أوليفا ديون يمتلك مزرعة صغيرة بالقرب من بلدة كوربيل في مقاطعة أونتاريو الكندية . كان الرجل أبا لخمسة أطفال وتوقع أن تنجب زوجته اليزار طفلا سادسا عندما باغتها الطلق في ساعة متأخرة من ليلة 28 أيار / مايو عام 1934 وكانت في شهرها السابع من الحمل . لكن اليزار فاجأت زوجها والجميع بإنجابها لخمسة بنات توائم هن حسب تسلسل ولادتهن : ايفون .. أنيت .. سيسيل .. اميلي .. ماري .
كانت ولادة صعبة ، ولم يتوقع الطبيب الذي قام بتوليد السيدة ديون ، ويدعى الدكتور آلان ديفو ، أن تنجو هي أو أي من المواليد الخمسة الذين أنجبتهم ، لكنهم خيبوا ظنه ، فالسيدة ديون سرعان ما تعافت بعد الولادة ، أما البنات فقد جعلوهن في سلة خوص كبيرة أرسلها الجيران ودثروهن بالبطانيات ثم وضعوهن بالقرب من موقد المطبخ ، وخلال الأربع والعشرين ساعة التالية قاموا بمسح أجسادهن بزيت الزيتون وتغذيتهن كل ساعتين بالماء الدافئ الممزوج بعصير الذرة ، ثم بدئوا يعطوهن مزيجا من حليب البقر والماء الدافئ وعصير الذرة مع قطرات من شراب الرم لتنشيطهن .
ولشدة دهشة الجميع ، فأن الرضيعات الضئيلات اللواتي لم يكن وزنهن مجتمعات يتجاوز الستة كيلوغرامات نجون من الموت بأعجوبة وتجاوزن مرحلة الخطر . وسرعان ما انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم ، فبدأت الصحف تكتب عن أخبار الولادة الفريدة ، عن أول خمسة توائم يكتب لهن الحياة على مستوى العالم . وراحت المساعدات والهدايا تدفق على منزل العائلة الفقيرة من جميع أنحاء كندا والولايات المتحدة .
اخذوهن من امهن ووضعوهن في مؤسسة خاصة ..
كان هناك اهتمام يفوق التصور بالتوائم الخمسة ، ولم تمض سوى أسابيع على ولادتهن حتى تلقى والدهن عرضا مغريا من " معرض القرن في شيكاغو " لأجل عرض التوائم الخمسة للجمهور ضمن فعاليات المعرض مقابل مبلغ كبير من المال . السيد ديون الذي كان فقيرا ويعاني أصلا من أجل إمرار معاش خمسة أطفال , والذي وجد نفسه فجأة أبا لعشرة ، وافق بعد تردد على العرض ووقع العقد ، لكنه شعر بالندم لاحقا فألغى العقد قبل أن يدخل حيز التنفيذ . لكن ذلك لم يشفع له عند حكومة مقاطعة أونتاريو التي وجدت في فعلته فرصة ذهبية لسلب التوائم الخمسة منه . فالحكومة كانت قد وضعت التوائم الخمسة نصب عينيها من أجل استغلال شهرتهن الطاغية في تنشيط السياحة بمقاطعة اونتاريو ، وبالفعل تم سلب حق الوصاية من الوالدين بحجة عدم لياقتهم وأهليتهم للحفاظ على سلامة أطفالهم ، لكن المفارقة هي أن الحكومة لم تأخذ سوى التوائم الخمسة ، أما الأطفال الخمسة الآخرين فلم يهتم لهم أحد وتركوا بعهدة السيد ديون وزوجته .
التوائم الخمسة صرن جزءا من ممتلكات التاج البريطاني ، فكندا كانت ومازالت تابعة - ولو شكليا - للتاج البريطاني ، والملكة إليزابيث الثانية تعتبر رأس الدولة . تم وضع التوائم تحت وصاية الدكتور ديفو ، وقامت الحكومة بإنشاء مستوصف ودار حضانة على نفس الطريق الذي يقع عليه منزل عائلة ديون لا يفصل بينهما سوى مسافة قصيرة . كانت بناية متكاملة أطلق الناس عليها أسم "التوائم الخمسة" ، وكانت تدار من قبل الدكتور ديفو وبعض الممرضات والمربيات والطباخات . وتم إنشاء باحة لعب كبيرة ملحقة بالمبنى محاطة بسياج تتخلله نوافذ كبيرة مغطاة بزجاج من النوع الذي يتيح النظر لجهة واحدة وذلك من أجل تمكين حشود الزائرين من التفرج على الفتيات وهن يلعبن في الباحة . ومن اجل الحماية ، فقد أحيطت البناية بسياج عالي تغطيه الأسلاك الشائكة .
التوائم الخمسة مع ابوهن وامهن واشقائهن وشقيقاتهن ..
بعمر أربعة أشهر تم أخذ التوائم من منزلهن وأودعن في مؤسسة "التوائم الخمسة" ، هكذا بدأت حياتهن المزيفة ، تماما كما في فيلم ترومان ، مع اختلاف تفاصيل المكان والزمان ، فقد علموهن منذ نعومة إظفارهن بأن الحضانة هي منزلهن ، ولم يسمح لوالديهن بزيارتهن إلا في مناسبات قليلة مع أن منزل العائلة لا يبعد سوى مسافة قصيرة على الجهة المقابلة من الشارع . ولم يسمح لهن بالاختلاط بأطفال آخرين ، أو بأي شخص سوى الدكتور ديفو وكادر المؤسسة .
كانت الحياة داخل المؤسسة تتسم بالجمود والروتين ، كل شيء يخضع للنظام وله ترتيبات ومواعيد محددة .. الطعام .. الاستحمام .. النوم .. اللعب .. التعليم . وكل شيء يتم تسجيله وتوثيقه ، حتى المرات التي يدخلهن فيها الحمام لقضاء حاجة كانت تسجل بكل دقة ، وكان يتم إخضاعهن لاختبارات وتجارب وفحوص مستمرة . كل صباح كان على الفتيات أن يقابلن الدكتور ديفو لإلقاء التحية ، كل واحدة منهن كانت ترتدي لونا مميزا : انيت الأحمر .. سيسيل الأخضر .. اميلي الأبيض .. ماري الأزرق .. وايفون الوردي . أما الفقرة الأهم في برنامجهن اليومي فتتمثل باللعب في الباحة الخارجية ، كان يسمح لهن باللعب ثلاث مرات يوميا ، كل مرة تدوم نصف ساعة . وخلال هذه الفترات كان يتاح لمئات وآلاف المتفرجين المتجمهرين عند السور الخارجي فرصة رؤية التوائم ومراقبتهن ، لكن الفتيات لم يكن باستطاعتهن رؤية هؤلاء المتفرجين ، كن يدركن بأن ثمة من يراقبهن عن طريق الأصوات والظلال فقط . وعند حلول المساء كانوا يقومون بتحميم الفتيات ثم يلبسوهن البيجاما ويرسلوهن إلى الفراش قرابة الساعة التاسعة مساءا . حتى التعليم كان يتم داخل المؤسسة ، لم يرسلن إلى مدرسة أبدا ، ولم يتعرفن إلى أطفال آخرين ، بل كانت حياتهن برمتها تدور في حلقة صغيرة لا تضم سواهن . هذه الحلقة كانت تساوي الملايين بالنسبة للحكومة ، فكل يوم كان يزور المؤسسة أكثر من ستة آلاف شخص ، وبحسب السجلات الرسمية فقد زار المؤسسة ثلاثة ملايين شخص بين عامي 1934 – 1943 . صحيح أن هؤلاء الزوار لم يكونوا يدفعون شيئا لقاء رؤية التوائم ، لكنهم ساهموا في تنشيط سياحة مقاطعة اونتاريو مساهمة فاقت جميع التصورات والتوقعات ، أصبحت مؤسسة التوائم الخمسة من أبرز معالم كندا السياحية ، حتى أنها تفوقت في قوة الجذب السياحي على شلالات نياجارا الشهيرة ، ووفرت أرباحا طائلة للحكومة تقدر بـ 51 مليون دولار سنويا .
آلاف الناس يتجمعون يوميا لرؤية التوائم ..
الجميع حالوا استغلال شهرة الفتيات لكسب المال ، البلدة المغمورة التي لم يسمع بها أحد تحولت بين ليلة وضحاها إلى قبلة للسياح وسرعان ما ظهرت فنادق ومطاعم ومتاجر للتحف والتذكارات على جانبي الشارع المقابل للحضانة ، كان والد التوائم ، أي السيد أوليفا ديون ، هو أحد أوائل أولئك الذين استغلوا الفرصة وركبوا الموجة ، فأفتتح لنفسه متجرا لبيع التذكارات . كان يبيع صور بناته مقابل 25 سنت ، ويبيع تحفا تحمل صورهن .. فناجين .. أقلام .. لوحات .. لعب خشبية .. إضافة إلى أحجار من مزرعته كان يبيع كل منها بمبلغ نصف دولار ، زاعما بأن لها قوة سحرية في زيادة الخصوبة لدى الرجال والنساء ، وأنه لولا هذه الأحجار لما تمكن من أنجاب خمسة توائم ! .
وظهرت الكثير من السلع التي تحمل صور التوائم ، كانت صورهن بمثابة علامة مسجلة للنجاح والازدهار ، فعلى سبيل المثال ارتفعت مبيعات شركة الحليب إلى الضعف ما أن وضعوا صور التوائم عليها .
حتى نجوم هوليوود في ذلك الزمان تقاطروا على بلدة كوربيل المغمورة لرؤية التوائم ، لا بل أن التوائم أنفسهن شاركن في ثلاث أفلام هوليودية حققت نجاحا طيبا ، وظهرت صورهن فيما لا يحصى عدده من الصحف والمجلات والبرامج الوثائقية ، وتسابق المشاهير وكبار الساسة لرؤيتهن ، كان من أبرزهم ملكة بريطانيا وزوجها الدوق فيليب في الخمسينات .
الناس يتفرجون على التوائم عبر السور ..
خلاصة القول بأن التوائم الخمسة نلن من الشهرة في ذلك الزمان ما لم ينله نجوم السينما ورؤساء الدول ، الجميع تسابقوا لرؤيتهن باعتبارهن من أعاجيب ذلك العصر ، لكن أحدا لم يكلف نفسه السؤال فيما إذا كانت الفتيات سعيدات في حياتهن ؟ ..
في الحقيقة ، وبحسب ما قالته الفتيات أنفسهن لاحقا في حياتهن ، فقد كانت فترة الطفولة هادئة وآمنة لكنها تتسم بالجمود والبرود ، صحيح أن كل شيء كان متوفر لهن ، لكنهن افتقدن العلاقات الاجتماعية التي تساهم في بناء شخصية كل إنسان ، حتى العلاقة مع العائلة كانت معدومة ، كان أبوهن وأمهن وأشقائهن وشقيقاتهن كالغرباء ، يسمح لهم بالزيارة بين الفينة والأخرى ، لكن لا يسمح لهم بالتدخل بأي تفصيل ولو صغير بحياة التوائم . في الواقع لم يكن للتوائم تواصل مع أي شخص باستثناء الدكتور ديفو ، الذي تتطابق شخصيته مع شخصية المخرج كريستوف في فيلم ترومان شو ، كان إنسانا بارد المشاعر . أما الممرضات والمربيات اللواتي كن الشخص الأقرب للتوائم فلم يسمح لهن بتكوين علاقة وطيدة مع الفتيات ، كان يجري تغييرهن باستمرار من دون أن يسمح لهن حتى بتوديع الفتيات ، كانت الممرضة تختفي فجأة ، تماما مثل سيليفيا حبيبة تورمان .
التوائم في سن المراهقة .. ثوبهن يذكرني بستارة منزلنا في الثمانينات !! ..
هذه العزلة الاجتماعية والرابط المفقود مع العائلة عادت بالوبال لاحقا على التوائم ، فمما لاشك فيه أن روابط البشر العائلية تنشأ وتتوطد خلال فترة الطفولة ، ارتباطنا القوي بوالدينا ، خصوصا الأم ، يتعمق في هذه الفترة عن طريق التواصل الجسدي ، فليس هناك أكثر أمانا وحنانا ودفئا من حضن الأم ، لهذا تجد الكثير من الناس يصرخ مناديا أمه ساعة الكرب والملمات . لكن بالنسبة للتوائم الخمسة فهذا الرابط مع الأم والعائلة لم يكن له وجود .
في عام 1943 نجح اوليفا ديون في استعادة الوصاية على بناته اللواتي كن بسن التاسعة آنذاك لكن لم يسبق لهن أن أمضين ليلة واحدة مع والديهن . عادت الفتيات للعيش مع عائلتهن في منزل جديد بالقرب من الحضانة التي أمضين بها طفولتهن ، كان بيتا ضخما يتألف من عشرين غرفة تم شراءه وتأثيثه بالكامل بواسطة الأموال التي جمعتها الفتيات من الإعلانات والأفلام ، إضافة إلى وديعة بمبلغ مليون دولار وضعت بأسمهن في المصرف لكن لا يحق لهن التصرف بها حتى يبلغن سن الحادية والعشرين . أما بالنسبة لمؤسسة "التوائم الخمسة" فقد تحولت إلى مدرسة خاصة لتعليم التوائم بالإضافة إلى عشرة فتيات فقط تم انتقائهن بعناية من البلدة ليكن زميلات التوائم في دراستهن .
الحياة العائلية الجديدة لم تكن سعيدة ، فكما قلنا كانت الرابطة الأسرية مفقودة ، التوائم كن غريبات تماما بالنسبة لعائلة ديون التي كانت تتألف من الوالدين إضافة إلى ثمانية أولاد وبنات ، خمسة ولدوا قبل التوأم ، وثلاثة ولدوا بعدهم . وبحسب الفتيات فقد تعرضن للتميز والظلم والأذى من قبل والديهن وتمت معاملتهن بقسوة ، كانوا يفضلون أبنائهم الآخرين عليهن ، وقاموا بإجبارهن على القيام بالأشغال المنزلية بينما يجلس الآخرين مرتاحين ، وتعرضن للعقاب اللفظي والجسدي ، ولم يمنحن نفس المصروف والملابس التي كانت تمنح للآخرين ، وكثيرا ما كان والديهن يسمعوهن كلاما قاسيا مفاده بأنهن سبب جميع المصائب التي حلت بالأسرة ، وبأنه لولا مجيئهن لهذا العالم لكانت الأسرة تعيش بسلام . المفارقة هنا هو أن كل ما كانت العائلة تمتلكه آنذاك ، المنزل والسيارة والحياة المترفة ، كله كان بسبب الفتيات ومن الأموال التي حصلن عليها ، لكنهن لم يكن يعلمن ذلك ، تحملن التقريع والاهانات لسنوات طويلة قبل أن يدركن بأن كل ما تملكه العائلة يعود لهن .
في جنازة شقيقتهن ماري ..
وفي كتاب صدر مؤخرا تضمن مذكرات التوائم ، زعمت ثلاثة منهن بأنهن تعرضن للتحرش الجنسي باستمرار من قبل والدهن . كان يأخذهن بجولات في السيارة ، كل على حدة ، ويقوم بتحسس أجسادهن ويراودهن عن أنفسهن . حتى أنهن اشتكين لمعلمتهن في المدرسة فنصحتهن بارتداء ملابس سميكة حين يصعدن مع والدهن بالسيارة !! .
لكن بعد طرح المذكرات في المكتبات ، أصدر بقية أبناء وبنات السيد ديون بيانا كذبوا فيه كل التهم عن والدهم وزعموا بأنه كان والدا حنونا وأنه لم يسيء إليهم أبدا . وأنا شخصيا أتوقع أن ما قالوه صحيح ، نعم كان أبا جيدا وحنونا مع بقية أبناءه وبناته الذين رباهم هو وزوجته منذ الطفولة ، أما مع التوائم فرابط الأبوة كان مفقود ، ولا استبعد أن يكون قد تحرش بهن فعلا .
خلاصة القول بأن سنوات التوائم مع العائلة كانت في غاية البؤس والتعاسة ، لذا ما أن بلغن سن الثامنة عشرة حتى غادرن منزل العائلة إلى الأبد وقطعن كل الصلات تقريبا بوالديهن . وللأسف فأن السنين التالية لم تكن سعيدة أيضا بالنسبة لهن ، فقد انحسرت عنهن الأضواء وطواهن النسيان . ماري واميلي اخترن طريق الرهبة ، وخطف الموت كلتاهما في سن مبكرة ، أما انيت وسيسيل فقد تزوجن وأنجبن العديد من الأطفال ، لكن زواجهن انتهى بالطلاق ، فأزواجهن في الحقيقة كانوا طامعين في مبلغ الوديعة الكبير الذي كان بأسمهن في المصرف ، وما أن تبخر مبلغ الوديعة حتى تبخر الأزواج معه . أما ايفون فلم تتزوج أبدا وعاشت مع أختيها المطلقتين في منزل صغير وبإيراد لا يزيد على 800 دولار شهريا ، وهو مبلغ ضئيل جدا قياسا بمستوى الدخل في كندا . لكن الشقيقات الثلاثة رفعن دعوى قضائية على حكومة ولاية أونتاريو مطالبات بالتعويض جراء الأذى النفسي الذي تعرضن له في طفولتهن ، وكذلك بحصة من الأرباح الطائلة التي جنتها الحكومة بسببهن ، ولحسن الحظ فقد حكم القاضي بمنح الأخوات الثلاثة تعويضا قدره أربعة ملايين دولار .
صورة ملتقطة في التسعينات للثلاثة الاحياء من الشقيقات ..
ايفون ماتت عام 2001 ، ولم يتبقى على قيد الحياة اليوم سوى الشقيقتين انيت وسيسيل .
جدير بالذكر أن العالم عرف فيما بعد توائم خماسية أخرى ، فمع تطور الطب أصبحت حظوظ التوائم أكثر في البقاء على قيد الحياة ، ليس هذا فحسب ، بل كانت هناك حالات فريدة لتوائم سباعية وثمانية ، لعل أكثرها شهرة هي التوائم الثمانية التي ولدتها الأمريكية نادية سليمان والضجة التي أثيرت حولها لاحقا . لكن حتى الساعة لم يعرف العالم ولادة توائم تساعية وبقائها على قيد الحياة .
ولعل خير ما نختم به هذا المقال هو رسالة مؤثرة بعثت بها الشقيقات في عام 1997 إلى عائلة ميكاي الأمريكية التي أنجبت سبعة توائم ، وكانت حينها أول توائم سباعية تولد وتكتب لهم الحياة ، الرسالة تضمنت نصائح تعكس وجهة نظر الشقيقات في تربيتهن وما جرى عليهن في طفولتهن :
------------------------------------
الأعزاء بوبي وكيني
توائم عائلة مكاي السبعة ..
إذا كنا سنخرج للحظات من الخصوصية التي سعينا إليها طوال حياتنا فأن ذلك فقط من اجل إرسال هذه الرسالة لكم . نحن الأخوات الثلاثة نشعر بألفة وعاطفة طبيعية تجاه أطفالكم ، نتمنى أن يحصل أطفالكم على احترام أكثر مما حصلنا نحن عليه ، ينبغي أن لا يختلف مصيرهم عن بقية الأطفال . يجب عدم الخلط بين الولادة المتعددة ومجالات الترفيه ، ينبغي أن لا يكونوا فرصة للترويج وبيع المنتجات .
لقد جرى تدمير حياتنا بسبب الاستغلال الذي عانينا منه على يد حكومة مقاطعة اونتاريو حيث ولدنا . لقد تم عرضنا كالتحف ثلاث مرات يوميا لملايين السياح . ولحد هذا اليوم نحن نستلم رسائل من مختلف أرجاء العالم . لجميع أولئك الذين أبدوا دعمهم في ضوء الإساءة والمعاناة التي تحملناها ، نقول شكرا لكم . أما أولئك الذين يبغون استغلال الشهرة المتنامية للتوائم نقول حذاري .
نأمل مخلصين بأن يتم تعلم درس من خلال بحث التغييرات التي طالت حياتنا إلى الأبد بسبب تجربة طفولتنا . وإذا كانت هذه الرسالة ستغير مجرى الأحداث بالنسبة لغيرنا من التوائم ، فسيكون لحياتنا معنى وهدف أسمى .


تعليقات