في البرية (Into the wild)


ما فتئ الإنسان يبحث عن وسائل الراحة ، و كم يسعده زخم التكنولوجيا المتصاعد ، في كل ثانية  و ما ينتجه عقول العلماء من وسائل تسهل حياة البشر ، هذا ما قد يتفق عليه الجميع ، أما أن تترك حياة البذخ و الراحة بإرادتك لتعود إلى الحياة البدائية و ما فيها من مخاطر و مصاعب ، قد نحكم للوهلة الأولى على هكذا تصرف على أنه ضرب من الجنون ، أو عدم تحكيم للعقل بالشكل الصحيح .
لم يكن أليكساندر كأقرانه ، و ما جعلني أصدر عنه هذا الحكم أننا نتحدث عنه الآن فلو كان مثلهم لكان طي النسيان ، ككثير ممن عاشوا و ماتوا دون أن يلوح ذكرهم في بال أحد .
ترائى له حلم وحيد دأب لتحقيقه ، هو لم يقبل أن يكون عددا أو أن يتصرف كغيره ، أنهى دراسته الجامعية بتفوق كأنه كُتب له أن يتوفق في كل شيء ، ثم ألقى كل شيء جانبا المال الذي بحوزته ، إثباتاته الشخصية ، حتى لوحة السيارة تخلص منها ، و غير اسمه .
لقطة من الفيلم أليكس في يوم تخرجه مع أخته كارين
تخرج كريس من جامعة إموري بتفوق ، أزاح عن كاهله ما يدعوه بالواجبات المصطنعة التي كان عليه أن يُرضي بها غرور والديه و مجتمعهما الراقي ، ثم اتجه إلى أريزونا حيث ترك سيارته هناك و أخفى اللوحة التي تحتوي على رقم السيارة ، تبرع بما يملكه من مال إلى الجمعيات الخيرية ، أحرق ما تبقى لديه منه ، تخلص من إثباتاته الشخصية لأنه في عالم أليكس لا يوجد مكان للمسؤوليات و الالتزامات المضجرة و الواجبات السخيفة التي تُفرض على أبناء جنسه ، فلا مكان لهذا المجتمع المنافق المليء بالترهات أو ما يسمى بــ ( عالم الماديات ) التي قد تعطي أمانا زائفا لبعض الوقت ، في عالمه الأولوية للطبيعة و سحرها التي تعطيه الحرية المطلقة و التي كان يؤملها منذ زمن ، أنيسه الكتب و أشعارها يتحرر بها و يشعر بوجوده من خلالها .
إلى اليمين لقطة من الفيلم و إلى اليسار الصورة الحقيقية للزوجين اللطيفن الذين استقبلاه في حافلتهما المتنقله
يَخرج كريس في نهاية شهر أيار عام 1990 م ؛ ليبدأ حياة التجوال و التشرد دون هدف محدد أو واضح ، يمتطي قدميه مكتشفا عالمه و مبتدأ ً ميلاده ، يومئ بين الحين و الآخر للعربات لتقله ، حتى انتهى به المطاف في مقطورة صغيرة لزوجين لطيفين ، ليبدأ فصلا جديدا من حياته برفقتهما و بعدها يمضي في مغامراته التي قادته لزيارة كل من المكسيك الجديدة و كاليفورنيا وأوريغون ومونتانا و كندآ و داكوتا  ، ثم ما لبث أن وضع الخطة الملائمة له و هي التوجه إلى محطته الأخيرة ألا و هي ألاسكا ، حيث الحرية بلا حدود و النقاء المطلق ، فلا بشر ينغصون حياتك و لا وجود للماديات و لا لمجتمع يثقل كاهلك بالتزاماته المصطنعة ، عمل كريس في مزرعة ليؤمن احتياجاته هناك تعرف على واين صاحب المزرعة و قضى عنده بعض الوقت الذي بقي يتذكره حتى في آخر لحظات حياته .
كريس في المنتصف و صديقه واين إلى اليسار
في داكوتا يلتقي كريس بـ رون العجوز و يمضي معه وقتا رائعا يستقي منه الحكمة و يؤنس وحدته و هذا على ما يبدو جعل العجوز يفكر في تبني هذا الشاب المغامر و هذا ما عرضه عليه في مشهد مؤثر حين أقله إلى أقرب مكان لوجهته  لـ ألاسكا  .
رون العجوز مرافقا كريس لبعض الوقت قبل توجهه إلى ألاسكا
من ناحية أخرى جُن جنون العائلة فقد عرف الأب و الأم عن رحلة ابنهم المجنونة بعد شهرين من اختفائه بعد توجههم من فرجينيا إلى أتلانتا ليتفقدوا حاله ، لم ينفكوا عن البحث المستمر عن فقيدهم ، يأملون اتصالا ، أو رسالة تطمئنهم عن حاله ، يتفقدون كل الوجوه علهم يجدون السلوى أو علهم يُمنون برجوع ابنهم إلى أحضانهم ، لم يجدوا له أثرا كأنه تعمد أن يختفي ، حتى أنه تخلى عن اسمه فقد كان يُطلق على نفسه كريستفور الرحالة الخارق عوضا عن اسمه الحقيقي كريستفور مكندلز ، حتى شقيقته الصغرى كارين التي هي بمثابة الشقيق الروحي لكريس تشاركه مشاعره أفراحه و أحزانه لم يتواصل معها خلال رحلته ، و ما آل به إلى هذا المآل الوضع لمضطرب في عائلته و المشاكل المتكررة و الاوشاك على الطلاق من قبل والديه في عدة مناسبات ، و لكن الصدمة التي أثرت به حقا و لم يستطع تجاوزها هو حقيقة وجود عائلة هجرها الأب و لم يعترف بها من أجل عشيقة أصبحت بعدها أما لطفلين ، فاعترى الغضب صدر هذا الصغير و أصدر الحكم بلا رأفة أن يذهب بلا عودة ، أن يذهب بلا أثر ليكتشف ذاته و الغضب يتأجج في أوصاله تاركا عائلة مكلومة وراءه أمضت عامين تبحث عن محبوبها  ، و كم من عائلة و كم من إنسان جرب مرارة الفقد!! وقد يقول البعض أن هذا حكم جائر أصدره كريس بحق والديه و لربما لو كان هناك اهتمام أكثر بمشاعر هذا المراهق لم يكن لينضج شاب غرّ يتحكم به غضبه وتقوده أهواؤه إلى المجهول .
صور حقيقية من رحلات أليكس التي جاب فيها أراضي الولايات المتحدة الأمريكية
توجه كريس إلى ألاسكا في شهر أيار عام 1992 م سعيدا بأنه سيحقق ذاته فهو لا يحتاج للبشر ليشعر بالسعادة ، قطع النهر و توغل في ألاسكا فوجد حافلة مهجورة للتنقل ،  جعلها ملاذا للنوم و الاحتماء من البرد أصبحت بمثابة الوطن و الأمان و أخذ يتغذى على الحيوانات الصغيرة و النباتات البرية ، فعاش كريس الحياة التي كان يؤملها حيث لا بشر أو زيف فقط هو و صديقه الكتاب و عشيقته الطبيعة .
في الأعلى صورة من الفيلم ، و في الأسفل صورة الباص 142 الحقيقية
بعد فترة أدرك الحقيقة التي كانت غائبة عنه أو التي كان يتجاهلها ألا وهي أنه يحتاج إلى أحضان عائلته و يحتاج إلى الغفران الذي بدأ يتسلل إلى قلبه ، فقرر العودة و إنهاء رحلته ، و لكنه لم يستطع ، فقد فاض النهر و محاولة تجاوزه هي التوجه إلى الموت بحد ذاته .
آخر صورة التقطها كريس لنفسه وُجدت في كاميرته بعد موته
عاد كريس أدراجه إلى باصه العجيب  ، و لكن الموت وجد طريقه إليه ، فالمئونة الشحيحة التي كان يملكها شارفت على الانتهاء كما رحلته المهيبة ، بعد أربعة أشهر ليست سعيدة بأكملها لفظ كريس أنفاسه الأخيرة جوعا في ذاك الباص و كان يزن 30 كيلو غراما فقط ،  وُجد بعد أسبوعين على أيدي بعض الصيادين ، فكانت نهاية مؤلمة لشاب كان من الممكن أن يعانق والديه الفرحين بعودته بدل أن يعانقه الموت و يقتلعه في زهوة شبابه ، قضى ذلك الشاب المفعم بالحيوية المحبوب لدى الجميع ... غادر وحيدا في صمت ، و آخر ما كتبه كريس كان : " لقد عشت حياة سعيدة وانا أشكر الله، مع السلآمة وبارك الله فيكم" ، و تحقيقا لحلم أخيها غادرت كارين برفقة رماد كريس بواسطة الطائرة من ألاسكا الى فرجينا .
الصورة اليمنى لكريس و آخر الكلمات التي خطها قبل وفاته و الصورة اليسرى وضعته عائلة كريس تخليدا لذكراه في مكان وفاته

من هو كريستوفر مكندلز ؟

كريستوفر مكندلز، مغامر أمريكي سافر إلى البرية و توفي بعد أربعة أشهر من مكوثه في ألاسكا مع القليل من الطعام والمعدات , تحقيقا لحمله في العيش منعزلا ، ولد في 12 شباط 1968 م و توفي في 18 آب 1992 م له أخت تصغره تسمى كارين ولدت عام 1976 م .
صورة من طفولة كريس
هو ابن والت مكندلز 1936 م  ، عمل كاختصاصي هوائيات في ناسا  ، و ويلملينا ماكندلز 1945 م ،  عملت كسكرتيرة في هيوز للطائرات و لاحقا عملت لدى زوجها كمساعدة في شركة الاستشارات المنزلية الناجحة التي أسسها . لدى كريس أشقاء من أبيه من زواج سابق و قد ولد كريس و كارين قبل أن يحصل على الطلاق من زوجته الأولى و هذا ما جعل علاقة كريس تتدهور مع والده بعد اكتشافه لهذه الحقيقة في رحلة صيفية شمالي كاليفورنيا عام  1986 م  .
صور لكريس مع عائلته
حصل كريس سنة  1980 م على شهادة الثانوية مما أهله للالتحاق بجامعة إموري فحصل منها على شهادة الدراسة الجامعية سنة 1990 م بتخصص مزدوج في التاريخ و الأنثربولوجيا ، وُصِف كريس بأنه كان طالبا مجدا إضافة إلى كونه محبوبا من قبل الجميع .
صور لكريس مع عائلته
خرج فيلم سينمائي جَسّد حياة كريستفور مكندلز بعنوان ( إلى البرية )  (into the wild ) عام 2007 م على يد المخرج شين بين و الذي حمل نفس عنوان السيرة الغيرية للكاتب جون كراكوير الذي أُصدر عام 1996 م ، و قامت أيضا أخته بإعادة كتابة لسيرة حياة كريس .

تعليقات