الحياة لا تطاق .. سامحوني



عندما طرد أدم من الجنة أدرك منذ الوهلة الأولي أن أيام السعادة و الهناء قد ولت ، وأن أيامه على الأرض لن تكن مفروشة بالورود والرياحين بل بالشقاء والأنين! ، و هو ما أدركه أبناؤه من بعده، فهذه الحياة تحتاج إلى المثابرة لأنها كالسلم الذي لا نستطيع صعوده بمجرد التحديق إليه وأيدينا بجيوبنا .
البعض ناضل وحفر في صخورها الصلدة حتى وصل لمبتغاه و البعض الآخر رفع أمامها الراية البيضاء معلنا نيته على الانسحاب بالانتحار.‏
والتاريخ البشري يزخر بقصص هؤلاء المنسحبين أصحاب الرايات البيض ، بعضهم دفع دفعا لرفعها درءا لضرر أشد و البعض الأخر رفعها بكامل إرادته بعد أن أغلقت جميع السبل بوجهه .‏
سنتناول في هذا المقال بعض تلك القصص .. بعضها من العصور الغابرة و بعضها من عصرنا الحالي.‏

داليدا

داليدا .. حياة مفعمة بالحزن والفراق ..
إيطالية الأصل مصرية النشأة ، كانت أوربا تشتعل بجحيم الحرب العالمية الأولي حينما قرر والدها الهروب بأسرته من ايطاليا بحثا عن مكان أفضل و لم يجد خيرا من مصر التي كانت في ذلك الوقت قبلة للعديد من الأوروبيين حيث تمتزج الثقافات المصرية و الايطالية و الأسبانية ليعيش الجميع في ما يشبه التناغم الموسيقي على عكس ما يحدث الآن الجميع في حالة نفور و عداء( لا أحد يطيق أحد) .
استأجر الأب منزلا صغيرا بحي شبرا و هو أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة و التحق كعازف في أوركسترا القاهرة ، ولدت داليدا بعيب خلقي في عينها اليسرى سبب لها حول شديدا اضطرت معه لارتداء نظارة سميكة غليظة قبيحة الشكل مما جعلها موضع سخرية الفتيات اللاتي كن يصفنها بأبشع الأوصاف، و كان والدها شديد الصرامة يمنعها من الخروج ، عندما مات وجدتها فرصة لتحقيق حلمها في الشهرة، و كانت خطوتها الأولي في طريق الشهرة حينما تقدمت للاشتراك في مسابقة ملكة جمال مصر عام 1954 دون موافقة والدتها السيدة الإيطالية المحافظة و التي كانت ترى في تلك المسابقات خروجا على الأعراف و التقاليد لأن المتسابقات يضطررن للظهور شبه عاريات .
وحينما فازت بالمسابقة تهافت عليها أهل السينما لمشاركتهم أعمالهم و قابلت حينها الفنان العالمي"عمر الشريف" الذي أعجب بها لكنها لم تبادله هذا الإعجاب .
لكن ما كانت شهرتها في مصر لترضي طموحها ، سافرت إلى باريس و كادت تعود إلى مصر مرة أخري حتى تبدلت الأحوال و حققت لها أغنيتها ‏ (bambino) شهرة واسعة لم تحلم بها .
مع زوجها الذي انتحر ..
و على عكس ما حققته حياتها الفنية من نجاح و ازدهار كانت حياتها الخاصة سلسلة من الإخفاقات ! تزوجت وطلقت ، ثم ارتبطت بشاب إيطالي ثم شاب ارستقراطي فرنسي كلاهما مات منتحرا و كانت داليدا هي أول من يعثر على جثتهما المضرجة بالدماء.
ساءت حالتها النفسية و حاولت الانتحار أكثر من مرة ، فعلى كثرة عشاقها الذي يشاع أن منهم "فرانسو ميتران" إلا أنها كانت تشعر بالفراغ العاطفي وزادت حالتها سوء عندما أخبرها الأطباء أنها أصبحت غير قادرة على الإنجاب بعد أن أجهضت نفسها في سن صغيرة خوفا على مشوارها الفني.
حضرت داليدا إلى مصر عام 1986 لتشارك "يوسف شاهين" أحد أعماله و الذي لم يلق نجاحا يذكر .
بعد الفيلم شعرت داليدا بعلامات العجز تزحف على وجهها ، قررت أن تنهي حياتها بتناول جرعة كبيرة من المهدئات، عثرت عليها خادمتها ملقاة علي سريرها و بجانبها قصاصة من الورق كتب عليها : (الحياة لا تطاق .. سامحوني) .

روبن ويليامز

وجهه مبتسم .. لكن عينيه تفيض حزنا ..
‏ من منا يمكنه أن يصدق أن هذا الفنان الذي صنع الابتسامة و رسمها على وجوهنا يمكن أن يموت مكتئبا ؟ ملامح و جهه الممتلئ بالسعادة و البهجة توحي إلى الناظر إليه أنه من المستحيل أن يعاني صاحبها من الغم و الهم ، ولكن المظاهر كثيرا ما تخدع و ما أضواء الشهرة إلا هالة زائفة تحيط بالفنان خاصة الكومديان ، و هذا ليس حكرا على الفنانين الأجانب فقط ، فهذا "إسماعيل ياسين" الفنان الرائع الذي تربينا على أفلامه و استمتعنا بإفيهاته و تلذذنا بسماع ضحكته المميزة .. في سنواته الأخيرة عانى من الحزن و الاكتئاب بعد أن تراكمت عليه الديون و الضرائب فامتنع عن الناس بعد أن أسعد الناس و مات في النهاية مصابا بأمراض القلب ! .
ولنعود مجددا لروبن و يليامز الذي عانى في فترة من فترات حياته من إدمان الكحول فضلا عن مشاكله المالية بعد دفعه لمبالغ طائلة للحصول على أذن طلاق من زوجته الثانية.
قبل وفاته كان يعاني من داء"باركنسون" و هو مرض شائع في كبار السن من أعراضه الرعاش(الرجفان) أو التخشب (التصلب) و فقدان الاتزان و الاكتئاب.
دخل حجرته بينما زوجته نائمة و حاول قطع شريان يده اليسرى بسكين جيب صغير لكنه لم يفلح ، فقال بتوصيل عدد من الأحزمة و لفها على عنقه و شنق نفسه و عثر عليه مساعده في وضعية الجلوس تقريبا، فقد خرجت زوجته بعد استيقاظها دون أن تكبد نفسها عناء الاطمئنان على هذا المسكين! .

كليوباترا السابعة

كليوباترا .. اختارت الموت بسم الكوبرا ..
سليلة البطالمة و صاحبة القدرة الفائقة على إسالة لعاب الرجال، مطامعها ليس لها حدود و تنازلاتها من أجل الوصول للقمة ليس عليها قيود! .
تحالفت مع" قيصر" ضد أخيها للوصول إلى قلبه الذي سيوصلها حتما إلى عرشه ، عرفت كيف تسخر جمالها لتستعبد أعتى الرجال ، وقع" قيصر" رجل روما الأول صريع هواها و أنجبت منه "قيصرون".
أخذت من أسلافها غلظة القلب و قسوته حتى أنها عندما ذهبت إلي روما و جلست في المقصورة شاهدت شقيقتها "أرسينوي" و هي ترسف في أغلالها وسط الأسرى و لم تحرك ساكنا ولا خفق قلبها لرؤية شقيقتها على هذه الحالة! .
حتى أنها قتلتها بعد ذلك حينما انفردت بالحكم.‏
وما حدث مع قيصر حدث بالمثل مع انطونيوس فقد خلبت لبه و فتنت قلبه بمجرد أن رآها أول مرة،‏ أصبح خادما مطيعا لها ‏ ‏ مسلوب العقل ، و لم يسترد عقله إلا بساحة المعركة حينما وجد حبيبة الفؤاد تنسحب من الميدان تاركة إياه بعد أن لاح شبح الهزيمة ، فآثر الموت منتحرا، و ما كادت كليوباترا تعلم برغبة القائد المنتصر" أكتافيوس" على إذلالها بتقيدها و تكبيلها و عرضها في شوارع روما إلا و تجملت حتى تزف إلي ملك الموت بأبهى زينتها و حللها، جلبت الأفعى و وضعتها على صدرها ، و في هذا يقول شكسبير حينما ألتفت أفعى الكوبرا على عنقها على لسان كليوباترا: (مرحبا بالفعل الذي يقضي علي كل فعل) و يقصد الموت، يالها من عبارة عبقرية! .

الملكة زنوبيا

زنوبيا .. بعض الروايات تقول بأنها انتحرت
أطلق عليها الرومان "بنت الزباء" فقد كانت محاربة بارعة تجيد فنون الفروسية و تتقن رمي السهام ، من سلالة كليوباترا لم ترث منها الجمال و الذكاء و الأناقة فقط بل ورثت عنها أيضا حب السلطة وشهوة الملك . ولم تجد أفضل من القائد "أذينة" صاحب الشخصية القوية و الثروة الوفيرة وسيلة لنيل مأربها ، تزوجته و شاركته مجالسه و انخرطت في كواليس الحكم ، حتى ذلك اليوم الذي كان "أذينة" عائدا من إحدى حروبه هو و ابنه "عبد اللات" فهجم عليه مجموعة من الثائرين و أردوه قتيلا ، تسلمت زنوبيا مقاليد الحكم كوصية على أبنها وفي عهدها ازدهرت "تدمر" حتى نافست روما ، اشتعلت حروب طاحنة بين الجانبين انتهت بوقوع زنوبيا في براثن الأسر بعد أن رفضت الاستسلام بإباء و شهامة يفتقدها كثير من الرجال! .‏
اقتيدت إلى روما و سجنت ، و هناك فضلت أن تتجرع السم ، فما كان لملكة عاشت مرفوعة الرأس يرتعد أمامها أشرس المحاربين أن ترضي على نفسها العيش أسيرة مكبلة بيد أعدائها.‏

ختاما

في الماضي كان القادة و الملوك يفضلون الموت عن الحياة بينما الزعماء و القادة الآن يفضلون و يستمرئون نحر أوطانهم و قتل شعوبهم ! .
الأمانات سترد سترد إن لم يكن بسيوف جلادينا فلا تقلق فالسبل المتاحة في أوطاننا كثيرة حادث سيارة ، غرق عبارة، انفجار طيارة ، عبوة ناسفة ،انهيار كوبري وأنت فوقه أو تحته، حادث قطار و أنت بداخله أو خارجه! و ما علينا إلا الانتظار ، فالموت آت آت لا محالة، أذن دع الموت يأتيك بنفسه و لا تسع أنت إليه بل دعه يسعي هو إليك. 

تعليقات