أغنية مميتة .. تقتل سامعيها !


ليس من الغريب أن يستمع المرء لأغنية فيشعر بحزن عميق ويغرق في بحر من الكآبة إلى درجة أن تنهمر دموعه بلا استئذان ، فلعلها أيقظت في نفسه ذكرى جميلة لن تتكرر أو عاطفة مدفونة في مكان ما من تلابيب القلب .  لكن أن تكون الأغنية كئيبة وحزينة إلى درجة أن تؤدي بمستمعيها إلى الموت .. فذلك هو الغريب حقا .
كان لدى المجر واحدة من أعلى معدلات الانتحار في القارة الأوربية العجوز ، لذا لم تهتم الشرطة كثيرا عندما تم استدعائها لمعاينة جثة الاسكافي جوزيف كالر ، فلقد مات منتحرا مثل كثيرين غيره ، شنق نفسه داخل حجرته الحقيرة الواقعة داخل منزل متهالك في أحد أزقة بودابست المظلمة . من كان سيهتم لرجل مثله ؟ .. اسكافي بالعقد الخامس من العمر ؛ أعزب ومريض ومفلس .. كان رجلا للنسيان ...في ثلاثينات القرن الماضي لم تكن أوروبا مكانا جميلا ومسالما كما هي اليوم ، كان هناك كساد كبير (1) ، وكانت الأحزاب الفاشية المتطرفة تستميل إلى صفوفها المزيد والمزيد من الناس الجائعين والعاطلين والناقمين على الأوضاع الاقتصادية والسياسية . ولم تكن المجر (هنغاريا) بمنأى عن تلك الأوضاع ، كانت البلاد تئن من وطأة الفقر ، الرجال والشباب مكدسون في الشوارع يتوسلون أي فرصة عمل تعود عليهم بما يسد رمقهم ورمق عائلاتهم . ذلك الجو الكئيب المشحون بالبؤس كان يدفع الناس إلى تصرفات وأفعال وآراء متطرفة ، كالسرقة والنهب والعنف والأفكار الفاشية .. والانتحار ...
طوابير العاطلين والجوعى كانت تملئ الشوارع ..
المحقق كارل لانكه زار حجرة الاسكافي كأجراء روتيني ، ألقى نظرة سريعة على تلك الحجرة الصغيرة الموحشة ذات الرائحة الكريهة ، تساءل مع نفسه قائلا : "كيف تحمل ذلك الاسكافي العيش هنا .. كان حقا عليه أن ينتحر منذ سنوات ! " . في الحقيقة لم يكن هناك ما يسترعي الانتباه في تلك الحجرة ، كانت تخلو من الأثاث باستثناء سرير تعلوه أغطية بهت لونها وتكدر ، وإلى جوار السرير هناك منضدة خشبية قديمة كانت تقبع فوقها ورقة مطوية ، المحقق أخرج منديلا من جيبه وألتقط الورقة وفتحها ، لم يكن بداخلها سوى كلمتين : "الأحد القاتم" ، وكانت تشير إلى عنوان أغنية لمطرب هنغاري يدعى بول كالمار ، كانت أغنية كئيبة جدا ، لم يتعجب المحقق لكونها كانت آخر ما خطته أنامل الاسكافي المنتحر .
لكن ما حسبه المحقق للوهلة الأولى أمرا ليس ذو بال ، لم يكن كذلك فعلا ، فبعد عدة أيام تم استدعاءه مجددا لمعاينة جثة فتاة تدعى ماري ، في السابعة عشر من عمرها ، ماتت منتحرة بجرعة سم قاتل . بجوار جثتها الباردة على السرير كان هناك دفتر مذكرات منثور الصفحات ، مرة أخرى اخرج المحقق منديله ، رفع الدفتر برفق ، قلب صفحاته بسرعة وبدون اهتمام ، لكن حين وصل إلى الصفحة الأخيرة تغيرت معالم وجهه ، لشدة استغرابه كانت آخر عبارة خطتها الفتاة في ذلك الدفتر قبل موتها هي : "الأحد القاتم" ..
ما القضية ؟! .. تساءل المحقق مع نفسه ، ما قصة هؤلاء المنتحرين مع هذه الأغنية بالذات ؟ ..
كان هناك المزيد والمزيد من المنتحرين ..
الأيام التالية حملت للمحقق كارل المزيد من المفاجئات إذ تتالت البلاغات عن أشخاص آخرين استمعوا لأغنية "الأحد القاتم" مباشرة قبل انتحارهم ، بعضهم فجر رأسه برصاصة ، آخرون رموا أنفسهم في مياه الدانوب الباردة فغرقوا ، وقام بعضهم بقطع شرايينه في الحمام . وكانت هناك قصة غريبة عن رجل كان يجلس في حانة ، طلب من الساقي أن يشغل له أسطوانة "الأحد القاتم" (2) وما أن انتهت الأغنية حتى خرج من الحانة ورمى نفسه تحت إطارات أول سيارة مارة . وهناك قصة أشد غرابة عن صبي كان يقود دراجته بالقرب من ضفاف النهر عندما سمع متسولا يدندن بأغنية "الأحد القاتم" ، يقال بأن الصبي نزل عن دراجته وأخرج كل ما في جيبه من نقود وحلوي وأعطاها للمتسول ثم ركض صوب الجسر القريب وتسلق حافته و رمى بنفسه إلى المياه الباردة من دون أي تردد ليموت غرقا .
هذه الحوادث الغريبة كانت أبعد من أن تكون مجرد صدفة ، كان هناك خطب ما في هذه الأغنية ، لذا أصبحت بين ليلة وضحاها حديث الصحافة في بودابست ونالت شهرة واسعة لدرجة أن الشرطة التمست من الحكومة إصدار قانون يمنع بث وتداول الأغنية ، لكن الحكومة رأت بأن حظر الأغنية قد يؤدي لنتائج عكسية فيزيد من شعبيتها .
ولم يطل الوقت حتى بدأت الأغنية تحصد أرواحا خارج المجر ، في برلين عثروا على صاحبة محل بقالة مشنوقة في حجرة نومها وتحت أقدامها مباشرة كانت تقبع نسخة من أسطوانة "الأحد القاتم". وفي نيويورك انتحرت شابة وطلبت في وصيتها تشغيل أسطوانة "الأحد القاتم" أثناء جنازتها .
شهرة الأغنية المتنامية دفعت إلى ترجمتها وغناءها بالعديد من اللغات الأخرى ..
ماري لويز داميان غنتها بالفرنسية عام 1936 .
نوريكو أوايا غنتها باليابانية عام 1936 .
بيوتر لتشينكو غناها بالروسية عام 1937 .
أوغستين مغالدي غناها بالأسبانية عام 1938 .
أما أشهر من غناها بنسختها الانجليزية فكانت المطربة السمراء بيلي هولداي عام 1941 .
وكلما زادت شهرة الأغنية ، كلما زاد عدد ضحاياها حتى تحولت إلى أسطورة وأصبحت تعرف بأسم "أغنية الأنتحار الهنغارية" .
لكن من كان يقف وراء هذه الأغنية المنحوسة ، من الذي بعث الحياة في أوصالها أول مرة ؟ ..
الملحن راجو شيرش ..
أنه ملحن مجري مغمور يدعى راجو شرش ، كان يهوديا طارده النحس والفقر طوال حياته ، رموه في معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية فشاهد عائلته وأقاربه يموتون أمام عينيه وترك ذلك في نفسه أثرا لا يمحى ، ومع أنه نجا من الموت بأعجوبة إلا أن الحزن والبؤس كان رفيقه الحميم حتى آخر لحظة في حياته . كانت أغنية "الأحد القاتم" هي الأغنية الوحيدة الناجحة في مسيرته الفنية ، لكنه كان نجاح مشئوم مذموم قال عنه الملحن الآتي :
"أقف في خضم هذا النجاح القاتل وكأني متهم ، هذه الشهرة المميتة تسببت لي بالألم ، جميع خيبات الأمل التي طاردت قلبي بكيتها في هذه الأغنية ، ويبدو أن هناك آخرين شعروا مثلي ووجدوا فيها آلامهم وأحزانهم الخاصة" .
لكن ما هي قصة الأغنية ؟ ..
تعددت وتضاربت الروايات حول ذلك ، القصة الأكثر شيوعا تقول بأن ملحن الأغنية كان قد تخاصم مع حبيبته ، وبعد فترة حاول أن يصلح الأمور معها . توجه في ذات يوم أحد إلى منزلها وهو يحمل باقة ورود بيضاء ، كان متلهفا جدا لرؤية حبيبته وكلما أقترب من منزلها كلما تسارعت دقات قلبه وزاد شوقه ، لكن هناك عند باب الحبيبة كانت تنتظره مفاجئة صادمة ، كان هناك رجال متجهمين ونساء تنتحب وقد ارتدى الجميع ثيابا سوداء . لم يسأل أبدا ما الذي جري ، لم يكلم أحدا ، كان الباب مشرعا فدخل إلى المنزل بقدمين واهنتين ، مضى يترنح بين البواكي والنائحات ... وفي وسط حجرة الجلوس عثر على حبيبته أخيرا .. كانت مستلقية داخل تابوت مفتوح ، جثة بلا حراك ، كانت قد ماتت منتحرة صباح ذلك الأحد القاتم .
حبيبته كانت تقبع في الكفن ..
أي جرح وأي ألم .. ألا يكفي أنه فقير ومعدم وفاشل ، حتى ذلك الشيء الوحيد الناجح والجميل في حياته مضى من بين يديه إلى الأبد . أوجاع الملحن الشاب تحولت إلى صرخة موسيقية مشبعة بالبؤس ومسكونة بظلال وضلالات سوداء موحشة . وجاء صديق الملحن ، الشاعر لازلو جافور ، ليضيف من عنده لمسة أخرى مفعمة بالكآبة حين كتب قصيدة ملئها الحسرة واليأس ليتم تركيبها على ذلك اللحن الحزين .
هناك من يقول بأن الشاعر لازلو كان هو صاحب القصة ، هو الذي ماتت حبيبته وليس الملحن ، بينما يرى آخرون بأن القصة برمتها مختلقة ولا أساس لها من الصحة ، وان الأغنية هي في الواقع نتاج أوضاع وظروف مأساوية كانت سائدة في ذلك العصر .
على العموم ، أيا ما كانت الحقيقة ، إليك عزيزي القارئ كلمات الأغنية بالعربية ، هذه طبعا ترجمتي المتواضعة ولا أزعم بأنها ترجمة دقيقة :

الأحد قاتم , ساعاتي لا تهجع؛
عزيزتي ، الظلال التي أعيش معها لا تُعّد؛
الورود البيضاء الصغيرة لن توقظكِ أبدا,
ليس هناك حيث أخذتكِ عربة الحزن السوداء؛
الملائكة لا تفكر أبدا في أعادتكِ؛
يا ترى هل سيغضبون لو فكرت بأن التحق بكِ ؟
الأحد القاتم .
الأحد قاتم ؛ أمضيته مع الظلال كله؛
أنا وقلبي قررنا أن ننهي الأمر كله؛
قريبا ستكون هناك شموع وصلوات حزينة , أعلم ذلك
لكن دعهم لا يبكون , دعهم يعلمون بأني سعيد بالذهاب.
الموت ليس حلما , لأني في الموت سوف أداعبك؛
مع آخر نفس من روحي سوف أباركك.
الأحد القاتم.
أحلم , أنا فقط كنت أحلم؛
استيقظت ووجدتكِ نائمة في أعماق قلبي عزيزتي.
حبيبتي , أتمنى أن حلمي لن يسكنكِ أبدا
قلبي يخبركِ كم أريدكِ .
الأحد القاتم .(3)
جدير بالذكر أن هذه هي ترجمة كلمات الأغنية بنسختها الانجليزية ، النسخة المجرية الأصلية تختلف ، ويقال بأن الفقرة الأخيرة من القصيدة ، أي تلك التي تقول بأن الشاعر كان يحلم ، أضيفت لاحقا للتخفيف من حجم الكآبة واليأس الذي تنطوي عليه ولإبعاد شبح الانتحار عن ذهن مستمعيها .
لكن هل كانت الأغنية منحوسة حقا ؟ ..
الاغنية نالت شهرة واسعة بعد ان غنتها المطربة السمراء بيلي هولدي ..
طبعا هناك من يزعم بأن كل قصص الانتحار لا أساس لها من الصحة ومختلقة من قبل الصحافة وأولئك المولعين بالإثارة والغرائب ، وحتى لو كان هناك أناس انتحروا حقا بعد استماعهم للأغنية فذلك ليس بسبب الأغنية بحد ذاتها وإنما بسبب الظروف الصعبة التي كانت سائدة في الغرب خلال النصف الأول من القرن العشرين .
فيما يرى آخرون بأنه لا يوجد ما يمنع كون الأغنية تسببت فعلا بزيادة نسبة الانتحار بسبب كلماتها الحزينة التي تبعث في النفس شعورا بعبثية الحياة وبأن الموت أفضل وأرحم من تحمل آلمها وويلاتها .
وليس كذبا ولا اختلاقا أن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حظرت بث الأغنية خلال الأربعينات من القرن المنصرم ولم ترفع الحظر إلا بالسنوات الأخيرة ، وكذلك فعلت بعض المحطات الإذاعية في أوروبا والولايات المتحدة . أدارة البي بي سي بررت حظر الأغنية كونها "كئيبة جدا" خصوصا في حقبة كان الدمار والبؤس يلف فيها كافة أرجاء القارة الأوروبية .
ملحن الأغنية نفسه قال بأنه وجد صعوبة بالغة في العثور على من يوافق على طبع ونشر موسيقاه ، أحد المنتجين قال عن الأغنية :
"المسألة ليست أن الأغنية حزينة ، لكن هناك نوع من اليأس القاهر والرهيب فيها ، لا أعتقد أن هناك أي خير لأي كان في الاستماع لأغنية كهذه " .
أخيرا .. في ظهيرة يوم احد "قاتم" من عام  1968 ، بعد الاحتفال بعيد ميلاده التاسع والستين ، رمى الملحن راجو شرش نفسه من نافذة شقته في بودابست ، لكن المفارقة هو أن النحس لازمه حتى في انتحاره ، فعلى الرغم من أنه رمى بنفسه من عمارة شاهقة إلا أنه لم يمت ، نقلوه إلى المستشفى ونجا من السقطة ببعض الجروح والكسور ، قاموا بعلاجه وهو يبكي متوسلا الموت ، وحين حل المساء تركوه في حجرته بالمستشفى فزحف عن سريره ، وبكل ما تبقى له من قوة سحب سلكا كهربائيا عن الجدار ولفه حول عنقه ثم طوح بجسده بعيدا .أعجب ما في القصة هي نهاية الملحن نفسه ، لقد مات انتحارا وبصورة مأساوية ، لم يعد يطيق النحس الذي واكب حياته ، الألم الذي تجرعه حتى في عز نجاحه ، فالشيء الوحيد الذي حقق له الشهرة والمجد ، كان هو بحد ذاته أكثر ما آلمه وآذاه ، دمرته تلك الاتهامات في أنه كان السبب وراء انتحار الناس ، أثقلت وجدانه بشعور طاغي بالذنب .
في صباح اليوم التالي عثرت الممرضات على الملحن راجوا شرش مشنوقا في حجرته بسلك كهربائي .. لقد قرر "أن ينهي الأمر كله" .

هوامش :

1- الكساد الكبير : أزمة مالية مدمرة ضربت العالم بأسره ابتداء من عام 1929 بعد سقوط سوق البورصة في الولايات المتحدة أو ما أصبح يعرف لاحقا بأسم الثلاثاء الأسود . كان أثر الأزمة أكبر على الدول الصناعية لكن لم تنجو دولة في العالم من تداعياته . الكثير من المصانع أغلقت أبوابها وسرحت عمالها ، الكثير من المدن هجرت والمزارع تحولت لصحاري . حجم التجارة العالمية تقلص بمقدار النصف ، أسعار المحاصيل الزراعية انخفضت بمقدار ستين بالمائة ، عدد العاطلين عن العمر أرتفع إلى أكثر من ثلاثين بالمائة ، القوة الشرائية انخفضت ، زاد عدد المشردين والجائعين ، كان الناس يقفون بالآلاف في طوابير طويلة للحصول على غذاء مجاني من المؤسسات الخيرية . استمرت تداعيات الكساد العظيم طيلة عقد الثلاثينات من القرن المنصرم ومازال شبحه يؤرق الاقتصاديين والحكومات إلى يومنا هذا ، هناك خوف دائم من تكرار حدوث الكساد الكبير والأزمة المالية التي حدثت عام 2008 هي خير دليل على أن تلك المخاوف في محلها .

2 – الأسطوانات الموسيقية القديمة لم يكن حجمها يتجاوز ثلاث دقائق ونصف لكل وجه ، أي أن كل أسطوانة لم تكن تحتوي سوى على أغنية واحدة لكل جانب ، وكان الملحنون يجتهدون لكي لا يتجاوز طول أغانيهم الأربعة دقائق ، أستمر ذلك حتى عام 1948 حيث ظهرت أسطوانات مدتها أكثر من عشرين دقيقة لكل وجه .  

تعليقات